للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[دوافع الوقف]

ولو تأملتَ دقيق التأمل! لرأيت أن هؤلاء القادرين الأخيار، والأغنياء الأبرار، لم يدفعهم إلى التبرع بأنْفَس ما يجدون، وأحب ما يملكون، ولم يتنازلوا عن هذه الأموال الضخمة والثروات الهائلة إلا لِعِِظَم ما يرجون من ربهم، ويُؤمِّلون من عظيم ثواب مولاهم، ثم الشعور بالمسئولية تجاه الجماعة والأقربين، يدفعهم كل ذلك إلى أن يرصدوا الجزيل من أموالهم ليستفيد إخوانهم أفراداً وجماعات، جمعيات وهيئات، أقرباء وغرباء.

وثمة دافع آخر وهو: الدافع الأسري العائلي؛ إذ تتحرك عنده مشاعر القُربى، وعواطف الرحمة، فيندفع ليؤمِّن لذريته مورداً ثابتاً يعينهم على نوائب الدهر، وتقلبات الزمن، فيحميهم -بإذن الله- من الفاقة، أخذاً من عموم قوله صلى الله عليه وسلم: {إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس} بل إن من هؤلاء الأغنياء الحكماء قد يتوجسون خيفة من أن بعض الذرية لا يحسن التصرف في الثروة، أو يخشى عليهم الخلاف والنزاع والفرقة، فمن أجل مصلحتهم ومصلحة ذرياتهم وأقاربهم يُوقفون بعض الأعيان والأصول ليحفظ الثروة من الضياع، ويكف الأيدي من التلاعب، وبهذا يكون النفع مستمراً، والفائدة متصلة غير منقطعة.

قال بعض أهل العلم: الوقف شُرِع لمصالح لا توجد في سائر الصدقات، فإن الإنسان رُبَّما صرف مالاً كثيراً ثم يُفنى هذا المال، ثم يحتاج الفقراء مرة أخرى، أو يأتي فقراء آخرون فيبقون محرومين، فلا أحسن ولا أنفع للعامة من أن يكون شيءٌ حبساً للفقراء وأبناء السبيل، يُصْرَف عليهم من منافعه ويبقى أصله.

في الوقف تطويل لمدة الانتفاع من المال، فقد تُهَيَّأ السبل لجيلٍ من الأجيال لجمع ثروةٍ طائلة، ولكنها قد لا تتهيأ للأجيال التي بعده؛ فبالوقف يمكن إفادة الأجيال اللاحقة بما لا يضر الأجيال السابقة.