[بيان الترابط بين الدين والحياة]
الحمد الله الذي أكمل الدين، وأتم النعمة، وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
للحياة سمة هي التغير، وللدين سمة هي الشمول، وبين هاتين السمتين ترابط واتصال هذا بيانه:
إن أحوال الناس وتصرفاتهم تختلف باختلاف النسب الزمانية والمكانية والعرفية وغير ذلك.
فمن التغير تغير الاصطلاحات، فتنصرف العبارة عن معنىً إلى معنىً آخر، بحسب البلد أو الزمن المستعمل لذلك الاصطلاح.
ومن التغير تغير الحال من الوضع المعتاد إلى وضع الحاجة أو الضرورة.
ومن التغير تغير الأعراف، فيكون شيء ما قبيحاً في بلد، وهو في بلد آخر حسن غير قبيح.
ومن التغير تغير الوسائل، فلقد كان الناس في الماضي ينتهجون في معاملاتهم المالية نهجاً غير معقد، بينما هم اليوم يتعاملون عبر مؤسسات مالية طرق التعامل فيها شديدة التعقيد، وغير هذه الصور كثير، فإن المتغيرات لا تتناهى ولا تنقضي إلا بانقضاء الحياة ذاتها، هذا هو شأن الحياة.
أما الشريعة: فجاءت لتكون الشريعة الخاتمة الشاملة الصالحة لكل زمان ومكان، وشريعة بهذه المثابة لابد أن تستوعب الحياة كلها، ثابتها ومتغيرها، ولابد أن تنتظم كل فعل من أفعال المكلفين.
وإن العالم المسلم اليوم يريد أن يصحو صحوة رشيدة، وينهض نهضة قوية.
ولكننا نعلم علم اليقين أنه ما لم يواكب تلك النهضة فقه رشيد سديد يتصدى به أهل العلم لمتغيرات الزمان؛ فيجتهدون في استنباط الأحكام لها؛ فإنه ستكون فتنة مبناها على أحد منزعين:
الأول: الجمود.
والثاني: الانفلات.
وقد رُئِيَتْ بوادرهما، فهناك أقوام ممن وهت صلتهم بالكتاب والسنة وكلام أهل العلم، أطلقوا دعاوى التجديد والتطوير وتغير الأحكام بتغير النسب، وجعلوا تلك الدعاوى تكأة يتكئون عليها، وهم يدعون إلى الانحلال أو الخروج عن أحكام الدين.
وفي المقابل جمد فريق على الماضي وأساليبه وطرائقه، فلم يواكبوا ولم يستوعبوا مستجداته.
وهذا كله يبين مدى الحاجة إلى تصدي أهل العلم للمتغيرات؛ حتى يستنبطوا الأحكام لها، لئلا يصبح الدين كلأً مباحاً يرتع فيه كل ضال.
إن أحكام المتغيرات لا تُلْقى جزافاً بلا حجة ولا برهان، بل هناك أصول صحيحة وقواعد قويمة وضوابط متينة، يبني عليها الفقيه اجتهاده، ويجب ألا يتصدى لهذه المتغيرات وتأصيل منهجها إلا قوم ممن جمعوا بين التأصيل العلمي العميق والفهم الواقعي الدقيق، ونحسب أن فضيلة محاضرنا الشيخ الدكتور: صالح بن عبد الله بن حميد من أولئك، فقد هيأ الله عز وجل له المنبت الحسن، فهو ابن سماحة الإمام العلامة الفقيه: محمد بن عبد الله بن حميد أسبغ الله عليه شآبيب رحمته، وزانه الله عز وجل بالعلم، حيث أخذ عن والده علوم الشريعة واللغة، كما تلقى تعليماً نظامياً حتى حصل على درجة الدكتوراه عام (١٤٠٢هـ)، ونفع الله عز وجل به؛ فتصدر لتعليم الناس وإفتائهم، فدرس في كلية الشريعة وفي المسجد الحرام ولا زال، وتدرج في عدة وظائف، وهو الآن نائب الرئيس العام لشئون المسجد الحرام والمسجد النبوي، وإمام المسجد الحرام وخطيبه.
وله مؤلفات عدة منها رفع الحرج في الشريعة ضوابطه وتطبيقاته، وكتاب تلبيس مردود في قضايا حية وتوجيهات وذكرى وهو ديوان خطب، وهو عضو في عدد من المجالس والهيئات العلمية.
ونسعد في هذه الليلة بسماع محاضرة لفضيلته، عنوانها المتغيرات وضوابطها في اجتهاد الفقهاء، وستكون محاضرة فضيلته في ضوء المحاور الآتية:
الأول: مصادر التشريع.
الثاني: ضوابط النظر في المتغيرات.
الثالث: تطبيقات لبعض مجتهدي الفقهاء في النظر إلى المتغيرات.
ولعل من الطالع أن تكون هذه المحاضرة هي فاتحة محاضرات النشاط الثقافي بمركز الملك فيصل هذا العام، فباسم المركز نرحب بفضيلة الشيخ الدكتور: صالح بن عبد الله بن حميد، ونشكر له استجابته لهذه الدعوة، كما نرحب بالأساتذة والإخوة الكرام والحضور، وقبل أن أترككم مع فضيلته أدعو الأساتذة الراغبين في التعليق أن يتكرموا بكتابة الاسم حتى تُنَظَّم التعليقات حفاظاً على الوقت، كما أدعو الإخوة الراغبين في طرح الأسئلة أن يكتبوا أسئلتهم، وأترككم مع فضيلته، داعياً الله عز وجل أن ينفعنا بعلمه، وأن يجزيه عنا خير الجزاء.