للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حقيقة الهجرة]

إن الهجرة في حقيقتها -أيها المسلمون- معرفة الحق، والانتقال إليه، والاستمساك به، ثم الانتقال به، والدعوة إليه، والصبر على الأذى فيه، تلك هي طريقة رسل الله والسائرين على دروبهم، وفي القرآن الكريم حكاية عن إبراهيم عليه السلام: {وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [العنكبوت:٢٦].

استمساك بالإسلام، وانتقال به من موقع إلى موقع، فالهجرة حركة ودعوة وجهاد، والمهاجر لا يزال في ساحة الدعوة والجهاد ليس بخارجٍ عنها، إذا ضعف في موطن انتقل إلى موطن يكون فيه أكثر نفعاً وعزاً، تحرف لقتال، أو تحيز إلى فئة من غير تول للدبر.

ولئن وقفنا عند هجرة المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم وقفة تأمل وتدبر! ثم عمل وتأسٍ، فإننا واجدون من ذلك أموراً كثيرة ذات دلالات عميقة، فحين قامت الدولة في دار الهجرة، ووجد المؤمنون عند أهل طيبة النصرة، ثارت ثائرة كفار قريش، وأجمعوا أمرهم على اتخاذ مواقف حاسمة، وكان من ذلك أن تمالئوا على قتل صاحب الدعوة ورئيسها محمد صلى الله عليه وسلم.

يبتغون من ذلك إيقاف مدَّ الإسلام، وذلك دأب المبطلين في كل زمان ومكان.

نعم! حين يئسوا من أن تُجدي محاولاتهم الأولى، وحين لحظوا المؤمنين يتفلتون من أيديهم منتقلين إلى مواقع أقوى وأماكن أرحب، لجئوا إلى قتل المصلح والنيل منه، ظناً منهم أن في ذلك قضاء على الدعوة أو سداً لطريقها، ألا ساء ما يظنون.

يقابل هذا درس آخر عجيب! فمحمد صلى الله عليه وسلم حين أراد الهجرة استخلف علياً رضي الله عنه، ليرد الودائع والأمانات إلى أهلها، إنه محمد صلى الله عليه وسلم لم يزل أميناً عندهم قبل البعثة وبعدها.

عجباً أيها الإخوة! يودعونه أماناتهم، ويأمنونه على ممتلكاتهم، ثم يسعون في قتله.

إن أعداء الإسلام يوقنون في قرارات أنفسهم باستقامة المؤمن وأمانته ونزاهته، فهو في سيرته أتقى، وفي سريرته أنقى، ولكنَّ العمى والهوى والإصرار على الباطل هو الحامل للمحاربة ونصب المكائد، وصدق الله العظيم: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:٣٣].

وفي موقف آخر يمر عتبة بن ربيعة والعباس بن عبد المطلب وأبو جهل بن هشام على دار عمر بن ربيعة وقد خلت من أهلها، فقد هاجر رب الدار وزوجه وأخوه، فنظروا إلى الدار مع دور أخرى.

تخفق أبوابها ليس بها ساكن، كلٌ قد هاجر إلى الله ورسوله، ثم قال عتبة: أصبحت الدور خلاءً من أهلها، فقال أبو جهل للعباس: هذا من عمل ابن أخيك، فرَّق جماعتنا، وشتَّت أمرنا، وقطع بيننا.

سبحان الله! هذا هو شأن أبي جهل وأتباع أبي جهل، يجرمون ويفسدون ثم يرمون بالوزر غيرهم، يريدون قهر المؤمنين، فإذا أظهر المؤمن العزة وأبى الذلة جعل عزته مشكلة المشكلات، ورفضه الذلة مصدر المنغصات، وقد علم عدو الله أنهم لا ينازعونه في عقار ولا قمار، ولا ثمة تجارة يخشون كسادها، ولا مساكن يرضونها، ولكنها الهجرة إلى الله ورسوله.

من أجل هذا وأمثاله -أيها الإخوة في الله- مدح الله المهاجرين في القرآن الكريم، وجعل بعضهم أولياء بعض، وقرن الهجرة بالإيمان والجهاد، واعتبر النبي صلى الله عليه وسلم هجرة أصحابه عبادة مستمرة، وسأل ربه أن يمضي لأصحابه هجرتهم، واستيقن المهاجرون ذلك، فكانوا يتحرجون من المقام في مكة بعد الحج مخافة أن يعودوا في هجرتهم، وأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاث ليالٍ بعد النسك، وكثير منهم يأبى أن ينزل في داره التي خرج منها مهاجراً إلى الله ورسوله، واتفقوا أن يبدأ تاريخ الإسلام من هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي حدثٌ عظيم تجلَّى فيه الفرقان بين الحق والباطل، فالهجرة تعبدٌ عند المهاجرين الأولين، وتحول في تاريخ المسلمين.

فاتقوا الله رحمكم الله! واعلموا أن الهجرة عند داعيتها ضربٌ من الضروب الشاقة، يتحملها المؤمن في سبيل دينه، إنها تضحية بالمال والأرض في سبيل العقيدة والدين، حينما يقتضي الأمر ذلك، ذلك أن الحفاظ على الدين ضمان للحياة الكريمة، والنفس العزيزة.

تلك بعضٌ من عبر، وهذا شيء من اعتبار، فلا يجوز للمسلمين أن يتخذوا من السيرة قشوراً لا تحرك قلوباً، ولا تستثير همماً، ولا أن يكون الأمر عندهم مجرد إعجاب أشبه بتقليد موروث، ومعرفة سطحية مع تخلف في النهج والعمل.

سدد الله الخطى، ووفق للصواب، وأعز دينه، وأعلى كلمته، إنه ولي ذلك والقادر عليه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:٢١٨].

نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمد صلى الله عليه وسلم، وهدانا صراطه المستقيم، ووقانا طريق أصحاب الجحيم، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.