إن الصارف عن عقلك وقلبك حتى لا يخشع، وحتى لا يسمع، هو الهوى.
والهوى كلمة واسعة في القرآن، وواسعة في اللغة العربية، فالكفار على عقولهم، وعلى عبقرياتهم، لكن الذي يضلهم هو الهوى، ولا مانع أن ندخل مباشرة ونقول: كل مشكلات العالم الآن، وحقوق الإنسان، وما أدراك ما حقوق الإنسان! والكذب في تطبيق القواعد والقضايا الدولية، سببها اتباع الهوى مصالح خاصة، ما معناها؟ معناها اتباع هوى في مقابل الحق، والحق بين واضح أبلج، ومع هذا ينصرفون ويلتوون ويلتفون على النصوص، وعلى القواعد التي رسموها، والقوانين الوضعية التي وضعوها، وكذا وكذا إلخ، ليس لأنهم لا يعقلون، بل هم الذين وضعوا القانون ويتجاوزونه؛ لأنهم لم يقصدوا الحق، إنما قصدوا الهوى.
إذاً: حينما ترى نفسك لم تستجب حين يعظ الواعظ ويذكر المذكر، اعلم أن السبب هو الهوى، حينما يتكلم الواعظ عن الربا، وتعلم أن الربا حرمه الله ورسوله، لكنك غلبتك نفسك، وغلبك هواك، فأنت -فعلاً- بين نارين، نار الآخرة، ونار حبك الرشوة، وخيانة الأمانة تستودع أمانة وتضيعها، لماذا؟ لأنك لعبت، الواعظ يعظك والمذكر على المنبر يبين لك، ومع هذا خنت لماذا؟ لأنه لو كان في قلبك حياة وخشية من الله عز وجل، لتغير الحال.
ولنا أن نقف هنا وقفة طويلة، لأنها مهمة في قضية قال تعالى:{إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ}[الأنعام:٣٦]{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ}[الأنفال:٢٢] كما قال: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا}[الأعراف:١٧٩] وقال الله: {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ}[الأعراف:١٧٩] أضل من الأنعام، كيف؟!
الأنعام خلقها الله سبحانه وتعالى وأعطاها نوعاً من الهدى الذي تقوم به حياتها البسيطة والساذجة، قال تعالى:{الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}[طه:٥٠] كيف تحنو على صغارها؟ كيف ترفع رجلها من أجل أن يرضع صغيرها؟ كيف تدافع عن نفسها؟ كيف تهرب حينما ترى ما يؤذي؟ كيف تنطح حينما تشعر أن الإقدام ينفعها؟ كيف تنظر في الأكل وتشمه فإذا نفع أقبلت، وكذلك الماء، وكذلك إذا أقبلت على حفرة، فإنها لا تلقي بنفسها، وإذا أقبلت على شاهق، فإنها لا تؤدي بنفسها، وهكذا إذاً عندها قدر معيشي هداها الله سبحانه وتعالى إليه بحيث تعيش ما شاء الله أن تعيش.
الإنسان أرقى من هذا بكثير، فالحيوانات لا يمكن أن تصنع إبرة، ولا يمكن أن تصنع طعاماً، تلقي فمها ثم تأكل فقط، أما ابن آدم فإنه يصنع ويعمل وينتج زراعة وصناعة، وأشياء فوق الخيال، والمباني التي يقيم فيها تتكون من عشرات الأدوار، والحيوان إن حفر له جحراً، وإلا كنَّ في أي سقف أو شق من الأرض.
فليس هناك نسبة بين عقل الإنسان وعقل الحيوان كما هو معروف، لكن لاحظوا كيف أن الإنسان إذا ألغى عقله، لا يزال يتدنى ويتدنى حتى يصل إلى درجة البهيمة، ثم يكون أضل من الأنعام {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ}[الأعراف:١٧٩] وكما قلنا لكم: إن البهائم تدافع عن نفسها، وتعرف النافع والضار في حدود ما هداها الله.
الإنسان عنده عقل وعنده فهم، ويكتب نشرات صحية هذا ممنوع، وهذا اكتشف دواؤه، وهذا قد اكتشفت مضراته، وجراح، وعلماء، وأشياء كثيرة لا شك أنها محل فخر، ويطلب من المسلمين أن يصلوا إلى هذه الأمور ويتفوقوا عليها، وليس هناك إشكال، لكن كيف هذا العبقري، وهذا المكتشف، وهذا المحذر، وهذا المنبه قليلاً قليلاً إلا وقد غلبه هواه، فاقتحم ما يضره؟!