للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الدنيا وطبيعتها]

نأتي إلى مواقف المحاسبة لعلها ترق قلوبنا بشيء من أوضاع الدنيا.

عندنا جملة أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، تبين أن طبيعة الحياة لا تحتاج إلى أن نقف عندها، وهي كثيرة، وسوف أختار شيئاً منها على حسب الوقت:

يقول الله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد:٢٠].

إن حديث القرآن عن الدنيا حديث واسع ومتنوع، حديث يبين طبيعتها فيما ينبغي أن يتنبه إليه المسلم والتالي لكتاب الله، ولا شك أن الدنيا -كما سوف نرى- في طبيعتها أنها لا تذم لذاتها، وليس بتحريم الحلال، وإضاعة المال، المال له موقف آخر، ليس هذا المقصود، لكن الوقت لا يتسع للكلام عن هذا، لكن لا مانع أن نذكر شيئاً متاع الغرور يقول سعيد بن جبير: [[ما يلهيك عن طلب الآخرة، وما لم يلهك، فليس بمتاع الغرور، ولكنه متاع]].

هذا قد لا نتكلم عنه الآن، إنما نتكلم عن الدنيا المذمومة، والدنيا لا تذم لذاتها، إنما المذموم هو عمل ابن آدم فيها، وكل الأحاديث الذامة واللائمة، ليس المدح والذم فيها للدنيا، ولا للماديات، وإنما تتعلق بعملك أنت {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ} [الحديد:٢٠] لعب أي: للاعبين، فلا تكون لعباً إلا لمن يلعب، ولا لهواً إلا للاهي، ولا زينة إلا لمن أطغته الزينة وألهته، وتفاخر؛ لأنه صرف الدنيا لما لا ينبغي أن تكون، وجعلها للمفاخرة، وتكاثر في الأموال والأولاد.

إذاً: من جعل هذه وظيفة الدنيا، هذا هو المخوف، وهذا هو متاع الغرور، من جعلها لعباً ولهواً وزينةً وتفاخراً وتكاثراً في الأموال والأولاد، من جعلها كذلك فهذا هو المذموم، ولهذا مباشرة قال: {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} [الحديد:٢٠] والغيث هنا بمعنى: الزرع، واللغة العربية فيها تعابير كثيرة وليس هذا المقام للتفصيل، وقد عبر بالغيث باعتبار السبب؛ لأنه السبب -بإذن الله- لنبات الزرع وغيره.

والكفار هنا هم الزراع، الكافر بمعنى: الزارع، لأنه هو الذي يكفر الأرض، أي: يحرثها ويغطي البذور فيها، كما يشبه الدنيا كأنها -فعلاً- مزرعة، فالله دائماً يمثل بالزرع؛ لأن الإنسان يدرك بسرعة، ويرى تطوراته: تراها نبتة صغيرة، ثم تنمو وتصبح نضرة خضرة وجميلة، ثم بزهرها التي لا تكاد تمل منه، ثم لا يلبث أن يثمر، ثم يصبح هشيماً تذروه الرياح، بمعنى أن الحياة -كما يقول المختصون- قصيرة، بحيث يمكنك أن تراه من يوم أن كان صغيراً إلى أن يصبح كبيراً، والحياة الدنيا كهذه، أنت تعلم أنك كنت طفلاً، ثم شاباً، ثم قوة وفتوة، ثم كهولة، ثم هرماً.

{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً} [الروم:٥٤] القضية واضحة، فالذي يلهو بالدنيا ويتخذها دار لهو، هذه حقيقتها، ولا تستحق كل هذا؛ لأنها فعلاً كفترة الزرع إن سلمت من الآفات.

ما أنت إلا كزرع عند خضرته بكل شيء من الآفات مقصود

فإن سلمت من الآفات أجمعها فأنت بعد تمام الزرع محصود

هذا إذا فرضنا أنك سلمت من الآفات، ولكن كيف وأنت تتقلب في هذه الدنيا بابتلاءاتها ومصائبها، وابتلاء في أهلك، ونفسك، وأولادك، وممن حولك من جيرانك وأقاربك يبتلون بأشياء ومشكلات ومصائب، ونكد.

جبلت على كدر وأنت تريدها صفواً من الأقدار والأكدار

ومكلف الأيام ضد طباعها متطلب في الماء جذوة نار

فالله عز وجل يقول: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ} [الحديد:٢٠].

وأمثلة الدنيا في القرآن كثيرة: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس:٢٤].

{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً} [الكهف:٤٥].

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [الزمر:٢١].