[تقرير أن حق التشريع لله]
إذا كان الأمر كذلك، وإذا كان هذا هو شأن اتباع الهوى، وما يؤدي إليه الهوى؛ فعلينا أن نقرر حقيقة لا بد أن ننطلق منها، وعلى ضوئها يكون بعدنا وقربنا من الحق، يقول الله عز وجل: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [القصص:٦٨] ومن إعجاز القرآن الذي يدل على أنه حق من عند الله، ولا تنقضي عجائبه أن هذه الآية هي في نفس السورة التي يقول الله فيها: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص:٥٠].
فما هي المناسبة بينهما عندما قال الله: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص:٥٠] وقال بعد السياق: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} [القصص:٦٨] ثم بعد آيات تأتي قصة قارون: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أشَدُّ قُوَةً وَأكْثَرُ جَمْعاً} [القصص:٧٨]؟ فتفسيرات وتبريرات كل فيها مخالف للحق، ومتبع فيها الهوى والرغبات والشهوات، وخاصة شهوة المال، وكذلك شهوة الحكم والاستعلاء عند فرعون، فالآيات التي في سورة القصص كلها تتكلم عن سلطان الحكم، وسلطان المال ممثلاً في سلطان قارون، فالسورة هذه فيها عجائب، وفيها هاتان القاعدتان: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} [القصص:٥٠] وفيها: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص:٦٨].
عند تقرير حق الاختيار لله يتبين لنا مسالك أهل البدع، ومسالك أهل الأهواء، وذلك أن الله عز وجل يقول: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} [القصص:٦٨] ولاحظ أن الله قرن الخلق بالاختيار.
إذاً: الخلق مسلَّم، والناس يعلمون أن الخالق هو الله وحده، ولم يدع أحدٌ أنه يخلق أو يرزق، والمشركون مقرون لله عز وجل بتوحيد الربوبية، وأنه هو الخالق الرازق، المحيي المميت، منزل الغيث إلى آخره كما أن له حق الخلق، ولهذا قال: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} [القصص:٦٨] ليس لأحد من خلق الله مهما كانت منزلته، ومهما كان مقامه الخيرة من أمره، سواء كان ملكاً أو نبيناً أو ولياً، فكيف بمن دونه من أهل علم أو دونهم؟!
فالاختيار لله في أمر التشريع بأمر التوجيه: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} [القصص:٦٨] ثم قال: {سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [القصص:٦٨].
إذاً: من أعطى الاختيار لغير الله، أو أعطى لغير الله حق الاختيار فهو مشرك كمن أعطى حق الخلق لغير الله.
وأكثر ما ينصب هذا الأمر على العبادة التي هي محض حق لله وحده، أما في أمور الدنيا فقد جعل الله عز وجل للناس فيها نوع اختيار، والأصل فيها الإباحة، لكن في العبادات، الأيام أيام الله، والبلاد بلاد الله، فاختار الله عز وجل أماكن وجعلها أشرف البقاع، فليس لنا أن نضفي على أي بقعة قداسة، ولا نعتقد فيها أي بركة إلا بمقتضى النص، ومن ذلك أن الله عز وجل خص مكة وشرفها، وبين ذلك في كتابه، وبينه لنا رسوله محمد صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [آل عمران:٩٦ - ٩٧].
والمدينة شرفها الله، وأخبر نبينا صلى الله عليه وسلم ما فيها من الفضل، وبيت المقدس الله عز وجل أخبر عن فضله، فقال سبحانه وتعالى:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء:١].
فالبركات لا نعرفها إلا بمقتضى ما أخبرنا الله عز وجل ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
إذاً: فحق الاختيار، أن يختار هذا المكان ليكون أطهر البقاع، وذلك المكان ليكون فيه مزيد فضل، وليس لنا أن نقول: إن تلك البقعة مباركة أو مقدسة، أو فيها فضل أو حسنات، هذا فيما يتعلق بالأماكن.
أما الذي يتعلق بالأيام والشهور والساعات فالأصل أن الأيام أيام الله، وأنها متساوية إلا إذا جاء خبرٌ من الله عز وجل في كتابه، أو خبرٌ عن رسوله محمد صلى الله عليه وسلم يقول فيه: إن هذا فيه مزية، وقد جاءت أيام لها مزايا، وشهور لها فضائل، تختلف عن الأشهر الأخرى، فشهر رمضان له فضل، فمن أدى فيه نافلة كان كمن أدى في غيره فريضة، ومن أدى فيه فريضة كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه، وهذا فضل عظيم، ولا نستطيع أن نقول: إن هذا في شوال، أو صفر، أو ربيع، ثم في نفس رمضان هناك أيام تفضل، فالأيام العشر الأخيرة أفضل من بقية أيام رمضان، وليلة القدر أفضل الليالي كلها.
إذاً: هذه كلها لا نعرفها بالاجتهاد، ولا نعرفها بالعقل، إن فعلنا هذا سلكنا جانب البدع، وحينئذٍ البدع هي بمستحسنات عقولنا، أي: بأهوائنا، وهذا اتباع للهوى ولا محالة.
ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم أخبرنا، أن ليومي الإثنين والخميس مزيد فضل بالصيام خاصة، وليس فيه مزيد فضل الصدقة.
ويوم الجمعة له مزيد فضل -لكن لا يصام- وفضله في ساعة الإجابة التي فيه، وفي كثرة الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى حسب ما ورد في النصوص، إذاً: لا نجتهد فنقول: يوم الجمعة فاضل فنحن نتصدق فيه ونصوم، لا.
فالفضل إنما يتأتى بمقتضى النص.
فيوم الإثنين فضله في الصيام، ولهذا لا يمكن أن يحتج علينا أحد ويقول: يوم الإثنين هو يوم ولد فيه الرسول صلى الله عليه وسلم، إذاً: فكل أيام المولد له صلى الله عليه وسلم نحتج بها، نقول: لا.
الفضل في يوم الإثنين هو للصيام، ولا نضع ولائم، ولا احتفالات، ولا زيادة صدقات.
إنما نقتصر في التعبد على النص، وليس لنا أن نختار.
ومثل هذا حفل يوم الخميس ويوم الجمعة، وصيام ست من شوال هذا خاص، ولا نصو