[عدم الاكتراث بالنقد الهادم]
معاشر المسلمين: وثَمَّةَ خطابٌ تقتضيه المناسبة، إنه خطابٌ لأولئك الرجال الكبار؛ ليَبْلُوا سلوكَهم ومواقفَهم على الحق والصدق والعدل والإيمان، فلا يتبرَّموا من النقد المثار، أو يقلقوا لكثرة الهجَّامين والشتَّامين والشامتين.
إن أصحاب الحساسية الشديدة لِمَا يقول الناس، الذين يغترون بالمديح فيطيرون به فرحاً، أو يغتمُّون للذم فيختفون جزعاً، هم بحاجة إلى مقادير كبيرة من البرود والهدوء، وعدم المبالاة؛ لتهدأ أعصابُهم وتطمئن قلوبُهم.
إن العاقل الرزين، والمؤمن الواثق لا يكترث بتعليقات تطْلِقُها أفواهُ أقوامٍ دَيْدَنُهم التسلِّي بشئون الآخرين، ومن ذا الذي يملك حبس ألسنة الناس وكسر أقلامها حتى لا يطلقوها ظلماً وعدواناً وإفكاً وبهتاناً؟!
ولقد قيل: إن العظيم من الرجال من انقسم الناس فيه إلى قادحٍ ومادح!
وكم يفرح هؤلاء العظام بعيوبهم تُهدَى إليهم، فيجتنبوها، ويدعون بالرحمة والصفح لمن أهداها!
إن وحيد دهره مَن يزن ما يقال، فما كان باطلاً أهمله، وما كان حقاً أخذ به وقَبِله، وما لم يستبن فيه يتروَّى ويتمهَّل حتى يتبين له الحق.
وإن من الحق -معاشر المسلمين- التمييز بين النقد الهادف والنقد الهادم.
فالنقد الهادف: نصيحة مخلصة، وأمرٌ بالمعروف، ونهيٌ عن المنكر، وعونٌ على محاسبة النفس وهو نقدٌ بنَّاء يقوم الخطأ، ويقيَّم المعوج، ويقصد إلى الإصلاح؛ ليَحِق الحق ويَبْطُل الباطل، ويَهْدِي إلى الرشد، ويَهْدف إليه نقد يتعالى عن التجريح، وتتبع الزلات، وتضخيم الهفوات.
أما النقد الهادم: فهو ما دخله الهوى، فتوجَّه إلى التجريح، وامتطى صاحبُه الجورَ والزورَ والبهتان، واتهم النيات، ودخل إلى المقاصد من غير حجة ولا برهان، فهو تشويه سمعة، وطعن في الذوات إنه -عياذاً بالله- مشغلةٌ تفسد العمل، وتهدر الطاقات، وصرفٌ للأمة عن مهماتها، وإشغالٌ للمجتمع عن غايته الكبرى، وما هو إلا تَشَفٍّ، ونفثُ سموم، وانبعاثُ أحقاد وغيض، وتفكُّهٌ في المجالس بالغمز واللمز.
وإن مشاعر الرغبة والرهبة ودوافع المنفعة والحرمان؛ ما تزال هي السر الدفين وراء كثيرٍ من النقد والرضى، والنقمة والتأييد.
وبعدُ عباد الله:
فإن خير ما يزن به العبدُ نفسَه في هذه الأمواج: الحذر من الانتصار للنفس، والتذرع بالصبر والاحتساب، والحرص على تحري الحق، ولزوم الصواب، والبعد عما لا يعني، وألا يقع فيما ينتقد فيه غيره، مع الحرص الشديد على صلاح النية، وطرد باعث الحسد والهوى، وسوء الظن {لا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه، وماله، وعرضه}.
بذلك أوصاكم نبيكم وحبيبكم محمدٌ صلى الله عليه وسلم.
والناس أصناف في التعقل والتأدب والذوق وحسن التصرف، والسعيد من إذا بُصِّر تبصَّر، وإذا ذُكِّر تذكَّر، ولكل مقامٍ مقال، ولكل مقالٍ مقدار.
فلا تكن -يا عبد الله- ممن قل أدبه، وضعف إحساسه, وغلظ طبعه، وكل الناس تتحدث عن الإصلاح وتسعى إليه، وما كان الإصلاح في شائعات تثار، أو كلماتٍ في رموزٍ من التوقيعات على مواقع الشبكات والصفحات.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:١٦ - ١٨].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.