[مهمة البعثة المحمدية والرسالة الإسلامية]
الحمد لله حمداً كثيراً كما أمر، وكما حَمِد نفسه، سبحانه وبحمده لا نحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه، عز جاهه، وجل ثناؤه، ولا إله غيره.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، صاحب المقام المحمود، والحوض المورود، واللواء المعقود، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله عز وجل، فبتقوى الله تزكو الأعمال، وتعظُم الدرجات، فأكثروا من ذكره وشكره، فبالذكر تطمئن القلوب، وبالشكر تُحْفظ النعم، وتزودوا من الصالحات؛ فخير الزاد التقوى.
عباد الله: لقد طال على المسلمين الأمد، ونسي كثيرٌ منهم الذكر، ونَسوا ما ذُكِّروا به، لقد كثر عددهم، وكثرت عدتهم، ولكنهم لا يعرفون الميزان، ذَهَلوا عن سر العزة والقوة، وغفلوا عن أسباب النصر والهزيمة، وضَلُّوا طريق الكرامة والمَنَعَة.
أيها الإخوة: قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم لم يكن في الحياة الإنسانية عوج في المدنية، أو فراغ في الحضارة، لم تكن رئاسة المدنية وقيادة الحضارة وظيفة شاغرة، بل لم يكن العالَم في حاجة إلى أمة تُبعث من وادٍ غير ذي زرع، كما لم يكن العرب في ذلك الزمن وجهاء مؤثرين في مسار العالَم، بل لقد كانوا في ذيل الركب، يعيشون على هامش الحياة.
لقد كان واقع أمة العرب بباديتها وبداوتها وواقع الأمم المعاصرة مِن حولِها، بحضاراتها وقوة سلطانها، لقد كان واقع الجميع واحداً في ميزان الله: {إن الله نظر إلى أهل الأرض جميعاً، فمقتهم عَرَبَهم وعَجَمَهم إلا بقايا من أهل الكتاب}.
أيها الإخوة: إن المشكلة لم تكن مشكلة تحضُّر، ولا مشكلة تقدُّم حضاري، فهذا لا أثر له في الميزان.
إن مهمة البعثة المحمدية وغاية الرسالة الإسلامية، أسمى وأعلى وأهم وأعظم، إن سر النصر، وسبيل العز، وطريق الكرامة، مدلول عليه بقوله سبحانه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:١١٠].
إنه جهاد في سبيل الله؛ لتكون كلمة الله هي العليا، لم يكن صراعاً على موارد اقتصادية أو سلع استراتيجية، ولم يكن منافسة للاستئثار بالأسواق، ولا تسابقاً في صناعة أو تجارة، وإنما كان لإعلاء وإعلان التوحيد؛ ليُعْبَد اللهُ وحده لا شريك له.
اسمعوا إلى هذا الابتهال النبوي في غزوة بدر بمقاتليها المسلمين في قلة من العدد وضعف من الاستعداد، مقابل عدوٍّ بكامل عدته ووافر تجهيزه.
فزع النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه في إنابة نبي، وإلحاح عبد، ودعاء مضطر، مناشَدةً تجسِّد مهمة هذه الأمة، وغاية هذه الرسالة، لقد ناجى ربه بقوله: {اللهم إن تهلك هذه العصابة لن تعبَد في الأرض}.
إن بقاء المسلمين وحياتهم الحقيقية وعزتهم مشروطة بقيامهم بحق التوحيد، وإعلان العبودية لله وحده لا شريك له.
لن يكون التمكين، ولن يكون الأمن، ولن يكون السلام، إلا بتجريد العبادة لله وحده لا شريك له، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النور:٥٥ - ٥٦].
لقد انتصرت دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتقل إلى الرفيق الأعلى، والمتبصِّر لا يرى تفوقاً عمرانياً، ولا توسعاً مادياً داخل حدود الدولة التي تركها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولكنه ترك مجتمعاً موحِّداً، مؤمناً بالله، صنعه بإذن ربه، لقد كان الإنجاز رجالاً مؤمنين وعوا الرسالة واستوعبوا المهمة، خرجوا إلى الناس معلنين: [[ابتعثنا الله لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها]].