[الوصية بالتقوى والاستعداد للموت]
فأول الوصايا، وصية الله للأولين والآخرين، في قوله سبحانه: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:١٣].
فعليكم بتقوى الله، عليكم -رحمكم الله- بتقوى الله وحده لا شريك له، وخشيته ومراقبته، والحذر من سخطه واعتصموا بحبله، واعمروا قلوبكم بذكره، أحيوا قلوبكم بالمواعظ، وثبتوها باليقين، وذللوها بذكر الموت، وبصروها بفجائع الدنيا، وحذروها تقلبات الدهر، ونوروها بالحكمة، وانظروا في أخبار الماضين وسير الأولين، وخافوا إن عصيتم ربكم عذاب يوم عظيم.
الحذر الحذر -يا عباد الله- أن تكونوا ممن لا تنفعه المواعظ، وممن لا يحبون الناصحين، فلقد ذم الله أقواماً وسجل عليهم سوء مقالتهم: {قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ * إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ * وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [الشعراء:١٣٦ - ١٣٨]، وقال في قوم آخرين: {وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف:٧٩].
انظر -يا عبد الله- أي رجل تكون إذا وقفت بين يدي الله عز وجل فسألك عن نعمه عليك كيف رعيتها، الزم ما ألبسك الله من العافية بالذكر لمعاده، وما أنت صائر إليه، وموقوف عليه، ومسئول عنه، واعمل بما يحفظك الله به، وما ينجيك من عذابه وأليم عقابه، فإن الله قد أحسن إليك وأتم نعمته عليك.
واعلم أن الدنيا دار بلغة، وطريق إلى الآخرة، وأن المرد إلى الله، وأن الإنسان طريد الموت لا ينجو هاربه، ولا يفلت طالبه، فهو مدركه لا محاله، فكن منه على حذر، ولمقدمه على استعداد: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجمعة:٨] {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء:٧٨].
واعلم يقيناً أنك لن تبلغ أملك، ولن تعدو أجلك، فأجمل في الطلب، واقتصد في المكسب، وتحرى طيب المطعم والمشرب، فبئس الطعام الحرام، وارض بما قسم الله تكن غنياً، وما أطال عبدٌ الأمل إلا أساء العمل {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر:٣].
فاحتط لنفسك واستقل من عثرتك، فلست في دار المقام، فلقد نادى المنادي بالرحيل، فما بقاء المرء بعد ذهاب أقرانه! وطوبى لمن كان من الدنيا على وجل! ويا بؤس من يموت وتبقى من بعده ذنوبه.
دع الغفلة فإنك لم تزل في هدم عمرك وتناقص أيامك منذ أن خرجت من بطن أمك، فحاسب نفسك في الرخاء قبل حساب الشدة، فإن من حاسب نفسه في الرخاء كان مرجعه إلى الرضا والغبطة، ومن ألهته حياته وشغلته أهواؤه عاد أمره إلى الحسرة والندامة.
أصلح مثواك، ولا تبع آخرتك بدنياك، وليكن أول ما تلزم به نفسك -يا عبد الله- وتنظر فيه لشأنك صلاح دينك، وصحة معتقدك، وصدق إخلاصك، ولزوم ما افترض الله عليك.