[العلماء أكثر الناس خشية لله]
والآيات في هذا كثيرة مثل قوله سبحانه: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:٢٨]، وقوله سبحانه وتعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:١٨]، فجعل الله أهل العلم شهداء على وحدانيته، بعد شهادته وشهادة ملائكته على ذلك، لم يستشهد من سائر المخلوقات بعد الملائكة إلا أولي العلم، وكفى بهذا شرفاً وفضلاً! فقد استشهدهم على أعظم شيء مستشهد عليه، وهو التوحيد.
والله عز وجل يقول: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} [يوسف:٨٣]، قال فيها زيد بن أسلم: هو بالعلم، ولا شك أن يوسف عليه السلام ارتفع بأمور كثيرة، وكان مما ارتفع به يوسف العلم ولا شك.
والله عز وجل لم يأمر نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أن يتزود من شيء إلا من العلم فقط، فقال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} [طه:١١٤].
وهناك نصوص كثيرة في الحث على العلم.
لكن نقف عند قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:٢٨]؛ فإن لـ ابن القيم فيها كلاماً جميلاً.
ابن القيم يلحظ أن في الآية حصراً، فمعناها: أن من لم يخش الله فليس بعالم، وأنه لا يخشى الله إلا عالم {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:٢٨] ويقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ * جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة:٨ - ٩]، فتكون النتيجة أن العلماء هم خير البرية، لأن خير البرية من خشي الله، ولا يخشى الله إلا العلماء، فيكون العلماء خير البرية، وهذا استنتاج لطيف وهو ظاهر أيضاً.
يقول ابن القيم: قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:٢٨] يقتضي الحصر من طرفين بمعنى: لا يخشاه إلا العلماء، ولا يكون عالماً إلا من يخشاه، فلا يخشاه إلا عالم، وما من عالم إلا وهو يخشاه، أي: إذا انتفى العلم انتفت الخشية، وإذا انتفت الخشية دلت على انتفاء العلم.
لكن وقع غلط في مسمى العلم اللازم للخشية كأنه يقول: هناك علماء نسب الله عز وجل إليهم علماً، كما في قوله تعالى {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} [البقرة:١٠٢] أي: يعلمون هم على حسب ما جاء في كتبهم أن من فعل السحر واشتراه ليس له في الآخرة من خلاق، فعندهم هذا العلم.
يقول ابن القيم: وإبليس من أعلم الناس، وفرعون من أعلم الناس، حتى قال موسى لفرعون: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ} [الإسراء:١٠٢]، وقال الله عز وجل في قوم ثمود: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت:١٧]، وقال في عاد وثمود: {وَعَاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} [العنكبوت:٣٨]، وقال في عموم قوم فرعون: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [النمل:١٤]، فأنفسهم مستيقنة لما جاء به موسى عليه السلام.
وسنة الله عز وجل في عموم البشر أنه: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة:١١٥].
إذاً: إن عندهم علم عن الآخرة وعما جاءت به الرسل كما دلت عليه هذه الآية، ولكن بالمقابل سماهم الله عز وجل جاهلين، كما يقول ابن القيم، يقول: وهؤلاء -أي: الذين عندهم هذه العلوم- هم الذين قد حكم الله عليهم في مقام آخر أنهم جاهلون، في مثل قوله سبحانه: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:١٩٩]، أي: الكفار، وقال: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} [الفرقان:٦٣]، فالجاهلون هنا هم الكفار الذين علموا أنه رسول الله وقامت عليهم الحجة وعلموا صدقه.
فهذا العلم الذي علموه لا ينافي الحكم على صاحبه بالجهل، فهو جاهلٌ باعتبارٍ عالمٌ باعتبارٍ آخر، يثبت الله له العلم في موضع، وينفيه عنه في موضع آخر؛ فالمثبت لهم هو العلم الذي تقوم به عليهم الحجة، والمنفي عنهم هو العلم النافع الموجب للخشية.
إذاً: في قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:٢٨]، علم خاص، فإذا لم يورثك علمك خشية فعليك أن تفتش نفسك، وقد ذكر الله في آية السحر علمين: أثبت أحدهما لهم، ونفى الآخر عنهم، {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة:١٠٢]، فوصفهم مرة بأنهم يعلمون، ووصفهم مرة بأنهم يجهلون.
ولهذا قال