أخرج البخاري وغيره عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: {من ضحى منكم فلا يصبحن بعد ثلاثة أيام ويبقى في بيته منه شيء، فلما كان العام المقبل قالوا: يا رسول الله! أنفعل كما فعلنا في العام الماضي؟ قال: كلوا واطعموا وادخروا فإن ذلك العام كان بالناس جهد -مشقة ومجاعة- فأردت أن تعينوا فيها} وفي بعض الروايات: {إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفت} أي أن دافة دفت قوماً من البادية على المدينة وكانوا في مجاعة وفي جهد، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يعينوهم بلحوم الأضاحي ولا يدخروا، وهم قوم محتاجون قدموا من خارج المدينة فأراد النبي صلى الله عليه وسلم مواساتهم.
ولئن ظن كثير من الفقهاء رحمهم الله أن هذه الإباحة نسخ للنهي المتقدم، أي حينما قال لهم:{من ضحى منكم فلا يصبحن بعد ثلاثة أيام} فنهاهم ثم أباح لهم، ولئن ظن كثير من الفقهاء رحمهم الله أن هذه الإباحة نسخ للمتقدم فليس الأمر كما ظنوا على التحقيق، وإنما كما قال القرطبي رحمه الله في تفسيره: بل هو حكم ارتفع لارتفاع علته، فالمنسوخ لا يعود أبداً، والمرفوع بعلة يعود بعود العلة، فلو قدم على أهل بلدة أناس محتاجون في زمان الأضاحي ولم يكن عند أهل ذاك البلد سعة يسدون بها فاقتهم إلا الضحايا، لتعين عليهم ألا يدخروها فوق ثلاثة أيام كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد وقع مثل ذلك في عهد علي رضي الله عنه، فقد صلى بالناس في يوم عيد، ثم خطبهم، فنهاهم عن ادخار فوق ثلاث تأسياً بنهي النبي صلى الله عليه وسلم، بل قال الحافظ ابن حجر في الفتح: والتقييد بالثلاث واقعة حال وإلا فلو فلم تسد الخلة إلا بتفرقة الجميع لزم على هذا التقدير عدم الإمساك ولو ليلة واحدة.
ولعلك بهذا تدرك أن النهي كان من مقتضيات السياسة الشرعية في تقييد المباح، وهي تصرفات من الإمام بوصف الإمامة نظراً لما يجب لأخوة الإسلام وما يقتضيه من ظرف.
ويلحق بذلك المنع من أكل اللحم، حينما منع الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه الناس من أكل اللحم يومين متتالين، وكذلك منعهُ الزواجَ من الكتابيات، كما في سنن سعيد بن منصور:[[أن حذيفة بن اليمان تزوج يهودية بـ المدائن فكتب إليه عمر أن خلِّ سبيلها، فكتب إليه: أحرام هي يا أمير المؤمنين؟ فكتب إليه عمر: أعزم عليك ألا تضع كتابي هذا حتى تخلي سبيلها، إنها ليست بحرام، ولكني أخاف أن تعاطوا المومسات منهن -وفي رواية أخرى-: أن تعليل المنع خوفاً أن يقتدي به المسلمون، فيختاروا نساء أهل الذمة لجمالهن، وكفى بذلك فتنة لنساء المسلمين]].
ومن المعلوم في الشرع أن نساء أهل الكتاب حل للمؤمنين ولكن الإمام عمر خشي مفسدتين إحداهما: إما التساهل في شرط الإحصان والعفاف المشروط بالمحصنات من الذين أوتوا الكتاب، فيقع المسلم في المومسات والفاجرات، وإما كساد سوق الفتيات المسلمات، وهو باب في سد الذرائع، سلكه الإمام حسب ما تقتضيه السياسة الشرعية.
مثل ذلك أيضاً في عهد عثمان القراءة في المصاحف التي بقيت بعدما استنسخ المصحف الإمام، فإن عثمان رضي الله عنه لما أمر بكتابة المصحف الإمام حين خشي اختلاف الأمة، أتبع ذلك بالأمر بإحراق المصاحف الأخرى، ومن ثم منع من القراءة فيها مع أن ذلك كان مباحاً من قبل.