يُعرف ابن عقيل السياسة الشرعية بأنها ما كان فعلاً يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه الرسول صلى الله عليه وسلم ولا نزل به وحي.
إنها تعني تدبير الشئون العامة من قبل ولاة الأمور بما يكفل تحقيق المصالح ورفع المضار بما لا يتجاوز حدود الشريعة وأصولها الكلية، فهي نظر في واقع المسلمين وما يجد لهم من أحوال وما يحل بهم من أزمات، فتتخذ لذلك الحلول المناسبة على نور من الشريعة وفي إطارها العام.
وحينما يجيل الباحث نظره فيما بحث فيه أهل العلم والفقه في سلطات ولي الأمر وصلاحياته في هذا الميدان وما يسن هو من تنظيمات وتدبيرات؛ ليحفظ على الأمة مصالحها وينتظم به معاشها، يجد في ذلك كلاماً واضحاً ونبراساً هادياً.
على الرغم مما أكدوه من دقة الموضوع، حتى قال الحافظ ابن القيم في دقة الموضوع: وهذا موضع مزلة أقدام، ومضلة أفهام، وهو مقام ضنك ومعترك صعب، فرط فيه طائفة، فعطلوا الحدود، وضيعوا الحقوق، وجرءوا الناس على الفجور والفساد، وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد محتاجة إلى غيرها، وسدوا على نفوسهم طرقاً صحيحة من طرق معرفة الحق والتنفيذ له.
وأفرطت طائفة أخرى قابلت هذه الطائفة، فسوغت من ذلك ما ينافي حكم الله ورسوله، وكلتا الطائفتين أتيت من تقصيرها في معرفة ما بعث الله به رسوله وأنزل به كتابه، فإن الله سبحانه أرسل رسله، وأنزل كتبه؛ ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي قامت به الأرض والسماوات، فإذا ظهرت أمارات العدل وأسفر وجهه بأي طريق كان، فثم شرع الله ودينه.
ويؤكد هذه المقولة لدى ابن القيم الفقيهان الجليلان: ابن فرحون المالكي والطرابلسي الحنفي حيث قالا: إن إهماله يضيع الحقوق، ويبطل الحدود، ويجرئ أهل الفساد، ويعين أهل العناد، والتوسع فيه يفتح أبواب المظالم الشنيعة، ويوجب سفك الدماء وأخذ الأموال غير الشرعية.
وعلى الرغم مما يجب أن يتوخى من دقة، ويلتزم من عناية، إلا أن أهل العلم صرحوا بجواز ذلك وعظم حاجة الناس إليه، يقول الإمام القرافي بعبارة صريحة جريئة: إن التوسعة على الحكام في الأحكام السياسية -أعني بالسياسة السياسة الشرعية وليس بمصطلحها المعاصر، السياسة على الأحكام التي تتعلق بالمصلحة المرسلة تقريباً- ليس مخالفة للشرع بل تشهد له الأدلة كما تشهد له القواعد، وقال: إن الفساد قد كثر وانتشر بخلاف العصر الأول، ومقتضى ذلك اختلاف الأحكام بحيث لا تخرج من الشرع بالكلية لقوله عليه الصلاة والسلام:{لا ضرر ولا ضرار} إلى أن قال: والاختلافات في الشرع كثيرة لاختلاف الأحوال، فكذلك ينبغي أن يراعى اختلاف الأحوال والأزمان فتكون المناسبة الواقعة في هذه القوانين السياسية مما شهدت له القواعد بالاعتبار، فلا تكون من المصالح المرسلة، بل أعلى رتبة، فتلحق بالقواعد الأصولية.
وبهذا يستخلص من كلام أهل العلم: أن الحكم مادام في دائرة الاجتهاد، ولم يرد فيه نص قطعي، أو حكم اجماعي، وهو يؤدي إلى درء مفسدة، أو جلب مصلحة، ويستند إلى سند شرعي من المصلحة المرسلة، أو سد الذرائع أو العرف؛ فهذا الحكم قابل للبحث والنظر من قبل ولي الأمر، ينظر فيه بما يحقق المصلحة، ولو كان قد صدر فيه حكم اجتهادي سابق.