للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الأصل في النصوص الثبات والدوام]

أما الآن فنأتي إلى الضوابط العامة في النظر إلى المتغيرات:

أشرنا إلى بعض الضوابط في المصادر التي تكلمنا عنها من الاستحسان والعرف والاحتياط وسد الذرائع والبلوى، لكن هذه ضوابط عامة في النظر الكلي أو الإجمالي.

أولاً: لا يجوز أن يفهم مما تقدم أن النصوص غير ثابتة، أو أنها لا تضع تشريعاً دائماً ثابتاً مستقراً شاملاً في الزمان وفي المكان، بل إن ذلك هو الأصل، أعني أن الأصل في النصوص هو الثبات والدوام.

ومن أجل هذا فيجب لزوم الحذر التام من التساهل أمام نصوص الشرع، أو محاولة التحلل منها، فذلك مزلق خطير، ومركب عسير، تزل فيه الأقدام، وتضل الأفهام، وتنهار الأحكام.

إن مما يجب أن يعلم في هذا الباب أن شريعة الإسلام قد حكمت في ديار متباعدة الأقطار، مترامية الأطراف، قروناً متوالية، وأزمنة متتالية، ولاقت مختلف العادات والتقاليد، وعايشت جميع البيئات، وعاشت عصور الرخاء والشدة، والقوة والضعف، واجهت الأحداث في جميع الأطوار؛ فما قصرت عن حاجة، وما عجزت عن واقعة، ولا قعدت عن مطلب.

والأمر الذي يجب أن ننبه إليه، وهو منطلق مهم من منطلقات هذا الحديث، هو أن في سنن الله وفي شرعه عنصرين: أحدهما: ثابت، والآخر: متغير.

فالاستمساك بأحدهما وإهمال الآخر يترتب عليه فساد عظيم، فالاستمساك بالثابت وحده جمود، والاستمساك بالمتغير وحده تسيب وتحلل وانحلال وضياع.

الثابت يجب أن يبقى ثابتاً، بل لا يمكن زحزحته فضلاً عن أن يسعى في زحزحته.

والمتغير طبيعته التغير، وجعله ثابتاً والالتزام به دائماً أبداً يوقع في عسر وحرج لا يطيقه المكلفون، وإن شئتم مزيد إيضاح فلتعلموا أن دعاة التحرر في هذه العصور المتأخرة من التيارات الوافدة من الغرب أو الشرق استمسكوا بالمتغير وجعلوه ركن تفكيرهم -وأنا لا أتكلم عن الحداثة، فهنا فقه وليس لغة، فالاستمساك بالمتغير وحده غير صحيح لأنه يؤدي إلى الانهيار- أقول: إن شئتم مزيد إيضاح فلتعلموا أن دعاة التحرر في هذه العصور المتأخرة في التيارات الوافدة من الغرب أو الشرق استمسكوا بالمتغير، وجعلوه ركن تفكيرهم وأصل حضارتهم، وظنوا أن الحياة تستقيم بهذا المفهوم للحرية عندهم، وهي التغير في كل شيء أصولاً وفروعاً، قوانين ودساتير؛ فهي موضة متغيرة لا تنتهي.

وبهذا وكما تشاهدون وتلاحظون حين لم يكن لهم ثوابت مستقرة، ومحاور يستندون إليها؛ فقد ضاعوا وأضاعوا، فلم تنضبط حركاتهم؛ ومن ثم فقدوا معنى الثبات في نهاية المطاف، فبمعرفة الثوابت والاستمساك بها وتمييز المتغيرات وضبط حركتها حول المحور الثابت حتى لا يخرج عن المسار الصحيح يكون الدوام والثبات والتمشي مع المتغيرات في الأزمنة والأمكنة، والناس مع بقاء ركود الثوابت والمحافظة على الجوهر، وهذا سر بقاء الشريعة وحيويتها حينما تطبق على وجهها.