أما المداراة: فهي صورة من صور التعامل الدال على الحكمة والموصل إلى المقصود، مع حفظ ما للداعي والمدعو من كرامة ومروءة، وقد بوب الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه فقال: باب: المداراة مع الناس، ثم أورد حديث عائشة رضي الله عنها: أن رجلاً استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: {ائذنوا له! فبئس أخو العشيرة، فلما دخل ألان له الكلام، فقالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله! قلت ما قلت ثم ألنت له القول، فقال: يا عائشة! إن شر الناس منزلة عند الله من تركه الناس اتقاء شره، أو اتقاء فحشه}.
قال ابن بطال: المداراة من أخلاق المؤمنين، وهي خفض الجناح للناس، ولين الكلام، وترك الإغلاظ، وذلك من أقوى أسباب الألفة قال: وظن بعضهم أن المداراة هي المداهنة فغلط؛ لأن المداراة مندوب إليها والمداهنة محرمة، والفرق: أن المداهنة من الدهان وهو الذي يظهر على الشيء ويستر باطنه.
وفسرها بعض العلماء بأنها: معاشرة الفساق، وإظهار الرضا بما هم فيه من غيرٍ إنكارٍ عليهم.
والمداراة: هي الرفق بالجاهل في التعليم، وبالفاسق بالنهي -لأنك لا تقره على فسقه، لكن ترفق في الإنكار- عن فعله، وترك الإغلاظ عليه، حيث لا يظهر ما هو فيه، والإنكار عليه بلطف القول والفعل، ولاسيما إذا احتيج إلى تألفه ونحو ذلك.
إذا تقرر هذا المعنى فهو الذي قد عناه الحسن البصري رحمه الله في قوله: كانوا يقولون: المداراة نصف العقل، وأنا أقول: هي كل العقل.
ومن الطريف -أيضاً- قول أبي يوسف رحمه الله في تعداد من تجب مداراتهم، فعد منهم: القاضي المتأول، والمريض، والمرأة، والعالم يقتبس من علمه، لا تنسوا أن تداروا نساءكم؛ لأن القاضي أبا يوسف عد المرأة مما ينبغي مداراته.
وأكثر ما تجري المداراة في اتقاء الأشرار والمكاره، وقد جاء في حكمة لقمان: يا بني! كذب من قال: إن الشر بالشر يطفأ، فإن كان صادقاً فليوقد نارين ولينظر هل تطفئ إحداهما الأخرى؟ وإنما يطفئ الخير الشر كما يطفئ الماء النار، وقد نُظم هذا المعنى في قول الشاعر:
وإذا عجزت عن العدو فداره وامزح له إن المزاح وفاق
فالنار بالماء الذي هو ضدها تعطي النضاج وطبعها الإحراق