للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الخلاف]

قبل أن نأتي إلى أصول الحوار، لا بد من الكلام عن الخلاف، ما معنى ذلك؟

يعني: أن الخلافَ عادةً لا يكون إلا في مسائل مختلف فيها، لأن القطعيات والمسلمات لا حوار فيها، وسوف نذكر هذا في أصل من الأصول، إنما الحوار يكون في الأمور المختلف فيها.

إذا كان كذلك، فلا بد أن نشير إشارة إلى أن الخلاف لا بد أن يقع في الناس، ولو يتصور أننا حينما نقيم ندوات أو جلسات حوارية بين مثقفين ومفكرين ومتخصصين أننا نقضي على الخلاف أبد الدنيا، هذا لا يمكن.

ومما أحببت أن أُنبه كذلك إلى قضية تتعلق في وقوع الخلاف بين الناس، فنقول: الخلاف واقع يبن الناس في مختلف العصور والأمصار، وهو سنة الله في خلقه، فهم مختلفون في ألوانهم وألسنتهم وطبائعهم ومدركاتهم ومعارفهم وعقولهم، وكل ذلك آية من آيات الله نبَّه عليه القرآن الكريم في قوله سبحانه وتعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ} [الروم:٢٢] هذا في الاختلاف الظاهر، وهذا الاختلاف الظاهري دال على الاختلاف في الآراء والاتجاهات والأغراض، وكتاب الله العزيز يُقرر هذا في غير ما آية مثل قوله سبحانه وتعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود:١١٨ - ١١٩].

يقول الفخر الرازي: والمراد اختلاف الناس في الأديان والأخلاق والأفعال، ومن معنى الآية: لو شاء الله، لجعل الناس على دين واحد بمقتضى الغريزة والفطرة لا رأي لهم فيه، ولا اختيار، وإذاً لما كانوا هذا النوع من الخلق المُسمَّى البشر، يعني: لو لم يختلفوا لما كانوا بشراً، بل لكانوا في حياتهم الاجتماعية كالنحل، أو كالنمل، ولكان في الروح كالملائكة مفطورين على اعتقاد الحق والطاعة {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:٦] لا يقع بينهم اختلاف ولا تنازع، ولكن الله خلقهم بمقتضى حكمته كاسبين للعلم لا ملهمين عاملين بالاختيار وترجيح بعض الممكنات المتعارضات على بعضها، ولا مجبورين، ولا مضطرين، بل وجعلهم متفاوتين في الاستعداد وكسب العلم واختلاف الاختيار.

أما قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود:١١٨ - ١١٩] اللام هنا في "لذلك" يقول أكثر المفسرين: ليست للغاية أي: ما خلقهم ليختلفوا، نحن نعلم أنه خلقهم لطاعته وعبادته، فهو لم يخلقهم للاختلاف، إذاً ما هو هذا الحرف؟

معلوم أنَّ اللام لها أغراض ولها معانٍ في اللغة، قالوا: إن اللام هنا للعاقبة والصيرورة، أي: من ثمرة خلقهم الاختلاف بمعنى: أن يكونوا فريقين {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:٧] وطبعاً اللام يسمونها لام العاقبة كما يستشهد بالبيت المعروف:

له ملكٌ ينادي في كل يومٍ لدوا للموت وابنوا للخراب

ابنوا للخراب، ولدوا للموت ليس معناها لدوا من أجل الموت، إنما لدوا وعاقبة ما تلدون للموت، وابنوا ولكن ما تبنونه عاقبته للخراب، لا علته الخراب، فاللام هنا للعاقبة، وليست للتعليل، وقد تُحمل على التعليل من وجهٍ آخر، أي: خلقهم ليستعد كلُّ منهم لشأنٍ وعملٍ، ولذلك خلقهم، أي: يستعدوا حينما كانت عندهم اختلافات.

إذاً: ليستعدوا ويتهيئوا فكل مُيَسرٌ لما خلق له، أي: خلقهم ليستعد كلٌ منهم بشأنه وعمله، ويختار بطبعه أمراً وصنعةً مما يستتب به نظام العالم، ويستقيم به أمر المعاش، فالناس محامل لأمر الله، ويتخذ بعضهم بعضاً سُخرياً، خُلِقُوا مُستعدين للاختلاف والتفرق في علومهم ومعارفهم وآرائهم ومشاعرهم وما يتبع ذلك من إرادتهم واختيارهم في أعمالهم ومن ذلك الإيمان والطاعة والمعصية.

هذا الخلاف متقرر وأمرٌ معروف، لكن هنا نقطة لا بد من التنبيه إليها وهي؟

وضوح الحق وجلاؤه، أي: أنه على الرغم من حقيقة وجود هذا التباين بين الناس في عقولهم ومدركاتهم وقابليتهم للاختلاف إلا أن الله وضع على الحق معالم، وجعل على الصراط المستقيم منائر، وعليه حُمِل الاستثناء في قوله: {إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} [هود:١١٩] وهو المنصوص عليه في آية أخرى في قوله: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} [البقرة:٢١٣] وذلك أن النفوس هناك جردت من أهوائها، وجدَّت في تلمس الحق، فإنها مهدية إليه، بل إن في فطرتها ما يهديها، وتأمل ذلك في قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:٣٠]، قال بعدها: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم:٣١ - ٣٢] وفي مثل هذا يقول الله عز وجل: {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم:٣٠] فهو أصل الفطرة، ولهذا جاء في الحديث النبوي: {ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه} وقال عليه الصلاة والسلام: {كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء- أي: مستوفية الخلق- هل تحسون فيها من جدعاء؟ -أي: مقطوعة الأذن- حتى أنتم تجدعونها} كذلك الإنسان مخلوق على الفطرة ومهدي إلى الحق، لكن تأتي الأهواء، وتستهويه الشياطين، وقرناء السوء، فيتأثر وقد لا يهدى إلى الحق بسبب هذه العوامل.

يوضح جلاء الحق ووضوحه أن أصول الدين، وأمهات الفضائل، وأمهات الرذائل، مما يتفق العالم الرشيد العاقل على حسن محموده وحمده، والاعتراف بعظيم نفعه، وتقبيح سيئه وذمه، كلُّ ذلك جاء في عبارات جلية واضحة ونصوص بينة لا تقبل صرفاً ولا تأويلاً ولا جدلاً ولا مراءً، وجعلها أم الكتاب الذي يدور عليها وحولها، فكل ما جاء في دين الأحكام، ولم يعذر أحد في الخروج عليها -وسوف نُشير إلى هذا في أحد أصول الحوار- وحذَّر من التلاعب بها، وتطويعها للأهواء والشهوات والشبهات، بتعسف التأويلات والمصوغات مما سنذكره كأصل من أصول الحوار، أما ما دون ذلك فقد عُوجِلَ الخلف إذا ما اختلفوا في غيرها، ورفع الحرج عنهم، بل جعل للمخطئ أجر، وللمصيب أجران تشجيعاً لنظره، وتلمس الحق، واستهداء المصالحة الرابحة للأفراد وللجماعات، ولربك في ذلك الحكمة البالغة، والمشيئة النافذة.

إذاً: هذا بما يتعلق بالخلاف ووجوده ووقوعه ووضوح الحق فيما بين ذ