للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[آيات منذرة من اتباع الهوى]

الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الحمد في الآخرة والأولى، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله بعثه بالهدى، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجعلنا على المحجة البيضاء، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الأصفياء، وأصحابه الأتقياء، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ وسار على نهجهم واقتفى.

أما بعد:

فإن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.

أيها الإخوة: أحييكم بتحية الإسلام، فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

إن هذا التقديم الذي قدم به فضيلة الشيخ مرحباً ومبدياً التحايا والترحيبات -وقبل ذلك لقيت ترحيباً حاراً غمرني وأخجلني- من أهل هذا البلد المضياف الطيب الكريم، وهو غير مستغرب منهم ولا فيهم، فهم أهل الكرم والخير والفضل، فشكر الله لهم، وأجزل لهم المثوبة، وأخص بالذكر-: {ومن لا يشكر الناس، لا يشكر الله} كما جاء في الحديث- نادي مرخ الرياضي، فقد كنا باستضافته الليلة الماضية ولا زلنا، ورأينا فيه أموراً طيبةً ومشجعة، فحق على أهل العلم، وعلى أهل الدعوة أن يشاركوا بتوجيههم في مسيرته الطيبة الخيرة، ليكون على النحو المرضي الذي يسر أهل الخير، فلهم مني خالص الشكر وجميل الثناء.

أيها الإخوة: الحديث الذي رُغب مني أن أتقدم به إليكم، وهي كلمات في هذا البيت من بيوت الله، حول الهوى - ونعوذ بالله من اتباع الهوى- وقد قدم فضيلة الشيخ، وأشار إلى عظم هذه المسألة، وأهمية هذا الأمر، وقد سمى الله عز وجل بعض المتبعين للهوى أنهم قد اتخذوه إلهاً في آيات كثيرة.

ومن هنا فإن هذا الحديث سوف يكون مشتملاً على عدة أمور لعل فيها جمعاً لهذا الموضوع، وإلا فهو واسع، ومن هذه الأمور التي سوف تعرض في هذا اللقاء استعراض بعض الآيات في الهوى، واتباعه والتحذير منه ولا سيما أهله، ومنه كذلك تقرير أن حق الاختيار، وحق الأمر والنهي هو لله وحده.

فإذا تقرر هذا وعلم المسلم أن الله وحده له حق الخلق، فليعلم أن الله وحده له حق الاختيار، قال تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص:٦٨].

وهذا الأمر إذا استقر في النفوس، واستيقنته القلوب، حينئذٍ يتبين كيف يصيب الشطط أصحاب الهوى، وأتباع الهوى، ثم بعد ذلك نتكلم عن الاستجابة لله ولرسوله، وأنه لا تتحقق الاستجابة إلا بالتجرد من الهوى، وأن من انقاد إلى الهوى فقد جانب الاستجابة لله ولرسوله بمقتضى قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} [القصص:٥٠].

ثم بعد ذلك نشير إلى شيء من الشهوات والشبهات الصادة عن سبيل الله عز وجل، والقائدة إلى الهوى، ثم نبين مواطن يتبين فيها امتحان الهوى، وكيف يتحسس المسلم هل هو متبع لهواه أم ليس متبعاً لهواه، ثم النقطة الأخيرة لصور من اتباع الهوى، بحيث إنه حينما يشعر بها المسلم ويراها يكون عنده ميزان، هل هو متبعٌ لرغبات نفسه، أم متبع لقول الله وقول رسوله في أمور قد تشتبه، لكن حينما أنقلها لكم -كما صورها العلماء- فإني لا آتي بجديد، وأنا حريص على أن أكون متصلاً بكتب أهل العلم، فأغلب ما سوف تسمعونه هو من كلام السلف رحمهم الله، وأخص شيخ الإسلام والإمام شمس الدين ابن القيم رحمه الله، وقبله الإمام ابن الجوزي.

من الآيات التي فيها ذكر الهوى وسوء اتباعه وصفة متبعيه ومصيرهم قوله تعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم:٢٣] وسوف تأتي إشارة إلى منهج المصطفى صلى الله عليه وسلم، والسر في قوله تعالى في أول السورة: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم:٢] وجاء في ثناياها: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} [النجم:٢٣] ومن ذلك قوله تعالى: {فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} [النساء:١٣٥].

إذاً: فإن مقابل الحق القسط والحكم بالعدل: الهوى؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} [النساء:١٣٥].

ومن ذلك قوله تعالى مبيناً حال الفريقين -فريق الجنة وفريق السعير-: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:٣٧ - ٤١].

إذاً: إيثار الحياة الدنيا، والطغيان المادي نتيجة الثرى مظهر من مظاهر اتباع الهوى، أما من خاف مقام ربه، ونهى النفس عن الهوى، فإن الجنة هي المأوى.

ومن ذلك أيضاً قوله تعالى، وهذا أيضاً في مسلك من مسالك أهل العلم -نسأل الله السلامة- {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} [الأعراف:١٧٥ - ١٧٦].

فإذاً قد يكون من مسالك أهل العلم- نسأل الله السلامة- ما يقود إلى الهوى، وسوف نشير إلى ذلك في ثنايا الحديث، ومن ذلك أيضاً قوله تعالى في خطابه لنبيه موسى: {فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} [طه:١٦].

ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:٤٣ - ٤٤] وهذا شأن الكافرين مهما كان عندهم من العلوم، ومهما كان عندهم من المعارف، وكذلك المنافقون؛ بل حتى العصاة أثناء مزاولة المعاصي، فهم متبعون أهواءهم، مغلقون عقولهم، بل عقولهم مطبوع عليها أثناء الإتيان للمشتهيات، حتى قال صلى الله عليه وسلم: {لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن