[الاستحسان تعريفه وأقسامه]
أما الاستحسان فقد عرفه ابن رشد المالكي فقال: إنه طرح لقياس يؤدي إلى غلو في الحكم ومبالغة فيه، فيعدل عنه في بعض المواضع لمعنىً يؤثر في الحكم يختص به ذلك الموضع.
وعرفه أبو الحسن الكرخي الحنفي حيث قال: الاستحسان هو العدول عن الحكم في مسألة بما حكم به في نظائرها إلى خلافه لوجه أقوى يقتضي العدول عن الأول.
فالاستحسان نوع من الترجيح بين الأدلة، وحقيقته كما يلاحظ وكما يصرح به كثير من الأصوليين أنه أخذ بأقوى الدليلين.
ويقسم الأصوليون الاستحسان إلى أنواع ثلاثة:
أولها: الاستحسان بالنص، وذلك يجري في كل أنواع العقود التي قالوا: إنها على خلاف القياس كالسلم والإجارة والقرض ونحوها، وهي استحسان بالنص لأنها قد ثبتت بنصوص شرعية على غير وفق القاعدة العامة من عدم صحة بيع المعدوم وعقود الربا ونحو ذلك.
وأغلب إطلاقات الاستحسان في كتب الفروع تنصرف إلى هذا النوع، وعلى الخصوص في كتب الفروع عند الحنفية فيقولون: هذا جائز استحساناً، ويعنون هذا النوع من الاستحسان بالنص.
الثاني: الاستحسان بالإجماع.
أي أن سند هذا الاستحسان هو الإجماع كما في مسألة الاستصناع.
الثالث: استحسان الضرورة، كما في مسألة تطهير الحياض والآبار؛ لأن الأصل أن الماء إذا خالطته نجاسة ولو كان كثيراً فإنه ينجس مادام أنه ليس جارياً، ولكن عفي عن ذلك استحساناً للضرورة، ووجه ذلك أن القياس يأبى طهارتها لأن الدلو ينجس بملاقاة الماء، فلا يزال يعود وهو نجس، ولأن نزع بعض الماء لا يؤثر في طهارة الباقي، وكذا خروج بعضه عن الحوض، وكذا الماء ينجس بملاقاة الآنية النجسة، والنجس لا يفيد طهارة؛ فاستحسنوا ترك العمل بموجب القياس للضرورة، فإن الحرج مرفوع بالنص، وفي موضع الضرورة يتحقق معنى الحرج لو أخذ بالقياس.
الرابع: الاستحسان بمعنى القياس الخفي، وقد سمي قياساً خفياً في مقابلة القياس الجلي، وهو القياس المصطلح عليه، والاستحسان بهذا المعنى يقصدون به ما قوي أثره.
ومن أمثلته: طهارة سؤر سباع الطير، فالقياس الجلي أن سؤره نجس لأنه من السباع، ودليل النجاسة حرمة أكل لحمه كسائر السباع، وفي الاستحسان هو طاهر، لأن السبع ليس بنجس العين بدليل جواز الانتفاع به شرعاً كالصيد، وكذا الانتفاع بجلده وعظمه، ولو كان نجس العين لما جاز كالخنزير.
وإن كان بعض التمثيل فيه نظر، فإن الكلب على ما قرره أهل العلم نجس العين وإن كان حلاً صيده.
وسؤر سباع البهائم إنما كان نجساً باعتبار حرمة الأكل؛ لأنها تشرب بلسانها وهو رطب من لعابها، ولعابها متولد من لحمها، وهذا لا يوجد في سباع الطير؛ لأنها تأخذ الماء بمنقارها، ومنقارها عظم، وعظم الميتة طاهر، فعظم الحي أولى؛ فصار هذا الاستحسان وإن كان باطناً أقوى من القياس وإن كان ظاهراً.
وهذا النوع من الاستحسان هو الذي يغلب إطلاقه عند الأصوليين.