[القدس وما تواجهه من تخريب في عصرنا]
أما اليوم فـ بيت المقدس يجري فيه ما لم يحدث على أيدي أي غزاة في تاريخ البشرية كلها، ولم يجرِ ذلك في تاريخ بيت المقدس الممتد آلاف السنين، لم يفعل غازٍ أو محتل مثلما فعله ويفعله اليهود اليوم، وليس بعد شهادة التاريخ من شهادة، وليس مَن رأى كمَن سمع على ما تشاهدون في هذه الأيام، بل في هذه الساعات.
احتلوا القدس الشريف منذ أكثر من ثلاثين عاماً، فأحرقوا المسجد الأقصى، ونسبوا ذلك إلى معتوه مختل العقل، وكأن المجانين لا يخرجون إلا على مقدسات المسلمين.
أما أعمال الحفر والهدم والتخريب حول المسجد فهي متواصلة منذ أن وطئت أقدامُهم قدسَنا ولا تزال.
انبعث باعثٌ منهم ليحصد المصلين من المسلمين وهم يصلون في مسجد الخليل، فقتلهم وهم ركعٌ سجود.
ومنذ أيام والمسلمون في صلاة الجمعة أُطْلِقَت النار على المصلين وهم في رحاب المسجد الأقصى؛ ليسقط العديد من القتلى والجرحى.
هُدِّمت الأبنية والآثار الإسلامية في سعي دائمٍ وحثيث لإزالة المعالم وتغيير الهوية.
وفي هذه الأيام يخطر تصرفٌ استفزازي يُوصَف بأنه شاذ، مع أنه مدعومٌ من جهاتهم الرسمية، تصرفٌ أسال الدماء، وفجَّر الحرب، وأزهق الأرواح، إنه ليس تصرفاً من مختل العقل، وليس تصرفاً فردياً، ولكنه تصرف من رئيس حزبٍ من أحزابهم، اقتحامٌ لحرمة المقدسات، محاطٌ بحراسة آلاف الجنود مسلحين بالعتاد والحراب والقنابل، تصرفات عدوانية أسالت الدماء، ورسَّخت الكراهية، وبعثت الأحقاد، وأعادت أجواء الحرب، زرعٌ للحقد الأسود في مدينة الإيمان والسلام والأرض المباركة، اعتداءاتٌ وانتهاكاتٌ في صورٍ فظيعة، تجعل من حق المظلوم أن يستخدم كل سلاحٍ ممكن لحماية نفسه، مظلومٌ احتلت أرضه يقابل جيشاً مدججاً بكل أنواع الأسلحة والآليات الفتاكة، يقابله أطفال وشباب أحداث، ليس لهم حيلة إلا العصي والحجارة والصراخ؛ ليدافعوا عن أنفسهم ومقدساتهم وأرضهم ومنازلهم.
كلٌّ يدعي التسامح، وكلٌّ يزعم الديمقراطية، وكلٌّ يتشبث بحقوق الإنسان في هذا القرن، قرن التحضر، وقرن المدنية، قرن المواثيق الدولية والقرارات الأممية؛ ولكن العمل والواقع والأرض والتاريخ هو الذي يصدِّق ذلك أو يكذِّبه.
دماءٌ تراق، وحصدٌ للأرواح من المدنيين العزل في أماكن العبادة والشوارع والطرقات والساحات العامة، بل صواريخ وقنابل داخل المنازل والشقق وحربٌ من الأرض والبحر والسماء.
يتحدثون عن السلام بألسنتهم، ويباشرون في خططهم واستعداداتهم وأفعالهم أفعالاً شنيعة، وتجاوزاتٍ رهيبة، لا تثير لدى الجهات الدولية القائمة على رعاية المواثيق الدولية، والقيِّمة على حقوق الإنسان، وحاملة لواء الديمقراطية، والمسئولة عن الأمن الدولي والاستقرار العالمي، لا تثير لديها أي تحركٍ أو تصرفٍ منصف.
بل إن هؤلاء اليهود الصهاينة لم يُسألوا عن جريمة ارتكبوها، ولم تُحجَب عنهم مساعدة طلبوها، ولم يتأخر عنهم مددٌ سألوه، ولم يُوجَّه إليهم لومٌ ولا عتاب في جرمٍ اقترفوه.
بل لقد توافد كبار ساسة العالم من أجل أسراهم، وبُعِثت التعازي من أجل قتلاهم، أما إخواننا في فلسطين فلا بواكي لهم، بل لقد قال أحد هؤلاء الساسة: لن نتغاضى مطلقاً عن قتل الجنود اليهود مهما كانت معاناة الشعب الفلسطيني.
أين العدل؟! وأين الإنصاف؟! وأين حقوق الإنسان مِن شعبٍ يعيش منذ سبعين عاماً في احتلال وفي مخيمات، وفي ملاجئ، والملايين منه يعيشون في التشريد والشتات؟!
شعب فلسطين حياته كلها خوف وتعذيب واعتقال وطرد، تُهَدَّم البيوت، وتُغْلَق المدارس، بل تُغْلَق المخازن والمتاجر لتُسَدَّ عنهم أبواب الرزق القليلة، تجويعٌ وبطالة، استيلاءٌ على الأرض، وتَحَكُّمٌ في مصادر المياه، بل تحكم في فرص الحياة، محتلٌ يلاحق من يشاء، ويتهم من يشاء، ويقتل من يشاء، ويعتقل من يشاء، ينشئ المستوطنات، ويقيم الحواجز، ويبني الأسوار، ويغلق المدن والقرى، ثم يزعم أنه يريد السلام!