[الأول: التزام القول الحسن وتجنب منهج التحدي والإفحام]
إن من أهم ما يتوجه إليه المحاور في حواره هو التزام الحسنى في القول والمجادلة، ففي محكم التنزيل: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء:٥٣]، وقوله سبحانه وتعالى: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:١٢٥]، وقوله: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} [البقرة:٨٣].
فحق العاقل اللبيب الطالب للحق أن ينأى بنفسه عن أسلوب الطعن والتجريح والتهزئة والسخرية وألوان الاحتقار والإثارة والاستفزاز.
ومن لطائف التوجيهات الإلهية لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم في هذا الباب: الانصراف عن التعنيف في الرد على أهل الباطل حيث قال الله لنبيه: {وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ * اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [الحج:٦٨ - ٦٩] كأن هذا نوع من المنهج؛ لأن الجدل في بعض الأحيان يجعلك تنصرف وتقف، فإن جادلوك في مقام آخر جادلهم في مقام آخر مبدأ {فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحج:٦٨]، وآية أخرى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ:٢٤]، مع أن بطلانهم ظاهر، وحجتهم ظاهرة، والقضية قضية مقام الربوبية {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ:٢٤]، هذا نوعٌ من القول الحسن في بعض مواطن الجدال.
ويلحق بهذا الأصل: تجنب أسلوب التحدي والتعسف في الحديث، وتعمد إيقاع الخصم في الإحراج ولو كانت الحجة بينة، والدليل دامغاً، فإن كسب القلوب مقدَّمٌ على كسب المواقف، يا حبذا لو يحسن هذا العلماء والدعاة -كسب القلوب مقدم على كسب المواقف- وقد تفحم الخصم ولكنك لا تقنعه، وقد تسكته بحجة ولكنك لا تكسب تسليمه وإذعانه، وأسلوب التحدي يمنع التسليم، ولو وجدت القناعة العقلية {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [النمل:١٤] والحرص على القلوب واستلال السخائم أهم وأولى عند المنصف العاقل من استكثار الأعداء واستكفاء الإناء.
وإنك لتعلم أن إغلاظ القول، ورفع الصوت، وانتفاخ الأوداج لا يُولِّد إلا غيظاً وحقداً وحنقاًُ، ومن أجل هذا فليحرص المحاور ألا يرفع صوته أكثر من الحاجة، فهذه رعونةٌ وإيذاءٌ للنفس وللغير، ورفع الصوت لا يقوي حجةً، ولا يجلب دليلاً، ولا يقيم بُرهاناً، بل إن صاحب الصوت العالي لا يعلو صوته في الغالب إلا لضعف حجته وقلة بضاعته، فيستر عجزه بالصراخ، ويواري ضعفه بالعويل، وهدوء الصوت عنوان العقل والاتزان والفكر المنظم والنقد الموضوعي والثقة الواثقة.
على أن الإنسان قد يحتاج إلى التغير من نبرات صوته حسب استدعاء المقام، ونوع الأسلوب لينسجم الصوت مع المقام والأسلوب استفهامياًً كان، أو تقريرياً، أو إنكارياً، أو تعجبياً أو غير ذلك مما يدفع الملل والسآمة، ويعين على إيصال الفكرة، ويجدد التنبيه لدى المشاركين والمتابعين.
على أن هناك بعض الحالات الاستثنائية التي يسوء فيها اللجوء إلى الإفحام، وإسكات الطرف الآخر، وذلك فيما إذا استطال وتجاوز الحد، وظلم وطغى وبغى، وعادى الحق، وكابر مكابرة بينة، وفي مثل هذا جاءت الآية الكريمة: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت:٤٦]، وفي قوله تعالى: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء:١٤٨] ففي حالات الظلم والبغي والتجاوز قد يسمح بالهجوم الحاد المركز على الخصم وإحراجه وتسفيه رأيه؛ لأنه يُمثل الباطل، وحسنٌ أن يرى الناس الباطل مهزوماً مدحوراً.
وقبل مغادرة هذه الفقرة من الآداب لا بد من الإشارة إلى ما ينبغي من البعد من استخدام ضمير المتكلم إفراداً أو جمعاً، فلا يحسن أن يقول: فعلت، وقلت، وفي رأيي، ودرسنا، وفي تجربتنا، فهذا ثقيل في نفوس المتابعين، وهو عنوان على الإعجاب بالنفس، وقد يؤثر على الإخلاص وحسن القصد، والناس تشمئز من المتعالم المتعالي، ومن اللائق أن يبدأها بضمير الغيبة، فيقول: يبدو للدارس، وتدل تجارب العاملين، ويقوم المختصون، وفي رأي أهل العلم والشأن ونحو ذلك، وإن كان قد لا يكاد الإنسان أن ينفك عن هذا، ولكن قدر الاستطاعة أن يقلل.