[من صفات الداعية: الإخلاص]
الإخلاص باب عظيم معلوم نظرياً، وتحقيقه عزيز، ومن حقق هذه الصفة لم يلتفت إلى نظر الناس أو تلمس مراضيهم، ويأتي هنا قول الإمام المجدد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: "إن بعض الناس يدعو إلى الله وهو إنما يدعو إلى نفسه".
وأعظم الناس مطالبة وحاجة إلى هذه الخصلة هم العلماء والدعاة، ومن أول من تسعر بهم النار يوم القيامة من ضيع هذه الخصلة، ولقد قال الغزالي رحمه الله في الإحياء؛ محذراً من الشهوة الخفية الداعية إلى الشرك الخفي: "إن الداعي قد يرى حين الدعوة والقيام بها عز نفسه بالعلم والدين، وذل غيره بالجهل والتقصير، فربما قصد بالدعوة إظهار التميز على غيره -نسأل الله السلامة- وإذلال المدعو".
ولعلكم تدكرون ما قلناه قبل قليل: وهو أن الموعظة الحسنة أن تجل أخاك، وتتلطف معه، وتحفظ له حق الإسلام.
قد يقصد الداعي -نسأل الله السلامة كما ذكر الشيخ الإمام الغزالي صاحب الإحياء بما سماه-: الشهوة الخفية الداعية إلى الشرك الخفي، وهذا كلامٌ يكتب بماء الذهب.
يقول: "إن الداعي قد يرى حين الدعوة والقيام بها عز نفسه بالعلم والدين، وذل غيره بالجهل والتقصير، فربما قصد بالدعوة إظهار التميز على غيره وإذلال المدعو بإشعاره ولو بطرفٍ خفي بالجهل، وخسة أهل الجهل، والتقصير، وسوء حال المقصرين.
قال: وهذه مزلة عظيمة، وغائلة هائلة، وغرور للشيطان يطوق به كل إنسان إلا من عرَّفه الله عيوب نفسه، وفتح بصيرته بنور هدايته، فإن في الاحتكام على الغير لذةً للنفس عظيمة".
أي: الإنسان عندما يتكلم في عيوب الناس يجد لذة في أنه يتعالى ويخاطب الناس: افعلوا وأصلحوا، لماذا لا تقدموا؟ فالنقد لذيذ للإنسان، ويجد لذة في التعالي على الناس، ولهذا يقول الشيخ: "فإن في الاحتكام على الغير لذة للنفس عظيمة".
ولم يقتصر الغزالي رحمه الله على هذا الإيضاح، بل زاد في بيان المعيار والمحك في ذلك حين قال: "وهناك محكٌ ومعيار ينبغي أن يمتحن الداعي به نفسه، وهو: أن يكون قيام غيره بالدعوة وإصلاح الناس واستجابتهم لغيره أحب إليه من استجابتهم له، فإن كان يحب أن يكفيه غيره فهو على خير، وإن كان لا يحب ذلك لغيره من أهل العلم والدعوة فما هو إلا متبع لهوى نفسه، متوسل إلى إظهار جاه نفسه بواسطة دعوته، فليتق الله تعالى فيه، وليدع أولاً نفسه".
انتهى بتصرف وحذف من الإحياء.
لكن هل هناك حقيقة لكلام الشيخ حينما قال: "أن يكون دعوة غيره أحب إليه من دعوته في نفسه"؟
هذا فيه نظر، وخاصة مع قوله صلى الله عليه وسلم: {فوالله لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم} فلا شك أنه كان مؤهلاً للدعوة متصدراً لها، لكن لاشك أنه إذا وجد من يكفيه اكتفى به، على معنى أنه إذا وجد في نفسه -فعلاً- أنه يحب الظهور فليتوارى، أما إذا جاهد نفسه وأراد أن ينال شرف هذا الحديث الذي أقسم فيه النبي صلى الله عليه وسلم: {لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم} فهذا محل نظر في كلام الغزالي رحمه الله.