للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تميز الأمم بعضها عن بعض والحكمة من ذلك]

الحمد لله الذي لم يزل بصفات الكمال متصفاً، جوادٌ كريم إذا وعد أنجز ووفى، تواب حليم إذا عصي تجاوز وعفا، أحمده سبحانه وأشكره على ما بسط من آلائه وأوفى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له هو حسبي وكفى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، أزكى البرية أصلاً، وأعلى الأنام شرفاً، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الأئمة الحنفاء السادة الخلفاء، والتابعين ومن تبعهم بإحسان وسار على نهجهم واقتفى.

أما بعد:

فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله -رحمكم الله- فإن تقوى الله عروة ما لها انفصام، من استمسك بها حمته -بإذن الله- من محذور العاقبة، ومن اعتصم بها وقته من كل نائبة، فعليكم بتقوى الله فالزموها، وجدوا في الأعمال الصالحة واغتنموها، فالزمان يطوي مسافة الأعمار، وكل ابن أنثى راحل عن هذه الدار.

أيها المسلمون! قضت سنة الله -عز وجل- في هذه الدنيا أن يتصارع الحق والباطل، ويتدافع الهدى والضلال، ويتنازع الصلاح والفساد، وفي محكم التنزيل: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة:٢٥]، ويقول سبحانه وتعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:٤٠].

فالتدافع في هذه الدنيا قائم بلا انقطاع، والتنازع سِرٌّ من أسرار هذه الحياة، وناموس من نواميس الله في خلقه، يجري على قدر، وينتهي إلى غاية، تدبير من حكيم عليم، ولقد كان من مقتضى ذلك أن تتعدد المجتمعات في صفاتها، وتتنوع في سماتها، فتلتقي كل جماعة على صفات عامة تؤلف بينها، وتشد بنيانها، وتوثق تماسكها، وتوحد صفوفها، لتبدو كالجسد الواحد، وفي ذات الوقت تتميز كل جماعة أو مجموعة عن غيرها بخصائص وعوامل تجعلها ذات استقلال وانفراد، فتشابه أفراد المجموعة يحفظها من التشتت والتفكك، وأما مخالفتها لغيرها فيحميها من الذوبان والاضمحلال، ودين الإسلام -وهو دين الفطرة- يقرر هذه السنة الإلهية، والنظام الرباني، فقد جعل الله الناس أمماً، كما جعلهم شعوباً وقبائل، فقال سبحانه: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدىً مُسْتَقِيمٍ * وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ * اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [الحج:٦٧ - ٦٩].

ويقول سبحانه: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [المائدة:٤٨] وفي هذا الباب وبمقتضى هذه السنن حرص الإسلام على تميز المسلمين عن سائر الأمم بوصفهم أمة مسلمة، فلقد دلت الدلائل والنصوص على حفظ هذا الدين ورعاية تميزه واستقلاله، وخلوصه من تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرعته ومنهاجه أقوالاً وأفعالاً ومظاهر تباين سبيل المغضوب عليهم والضالين، وتخالف طريق الكفار والمشركين، والمجوس والوثنيين.