[سد الذرائع والاحتياط]
سد الذرائع يعني أن ما كان ذريعة أو وسيلة إلى شيء يأخذ حكمه، فما كان وسيلة إلى الحرام يحرم، وإن كان في أصله حلالاً.
ومعنى هذا أن الأمر الجائز في الأصل يمنع منه في الحالات التي يؤدي فيها إلى ما لا يجوز، فعقد البيع حلال مشروع في أصله لقول الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة:٢٧٥] ولكن قاعدة سد الذرائع تقضي ببطلان هذا البيع إذا قصد به المحرم، أو كان الباعث والدافع إليه غير مشروع، كما في بيع السلاح لمن يقتل مسلماً، أو لأهل الحرب، وبيع العنب لمن يتخذه خمراً أو ما شابه ذلك.
أما الاحتياط فهو احتراز المكلف عن الوقوع فيما يشك فيه من حرام أو مكروه.
- مجال الأخذ بالاحتياط: والمكلف يأخذ بالاحتياط في مجالين: في مجال تحقق الشبهة، وفي مجال حصول الشك في الحكم الشرعي.
أما مجال تحقق الشبهة فذلك في الشبهة التي تعرض للمكلف في الأحكام الشرعية.
- أقسام الشبهة: وذلك قسمان:
القسم الأول: شبهة حكمية، أي تقع في الحكم الشرعي بمعنى أن حكم الشارع غير ظاهر من الدليل على وجه العلم أو الظن، وهذه غالباً مختصة بالمجتهدين -مختصة بالعلماء- حينما ينظرون في حديث -مثلاً- ولا يتبين لهم حكم، فتقع شبهة عند المجتهد.
فمعلوم أنه يجتنب مثل هذه التي لم يتوصل فيها إلى يقين أو ظن غالب يفيد الاطمئنان، فهذه لا تكون إلا في مجال المجتهدين والعلماء -أعني الشبهة في الحكم- وهي التي تقع في الحكم الشرعي، بمعنى أن حكم الشارع غير ظاهر من الدليل على وجه العلم أو الظن، وهذا متوجه إلى حكم الشرع نفسه.
ومن هنا تأتي توقفات بعض العلماء والمجتهدين في بعض المسائل من حل أو حرمة أو غير ذلك من أقسام الحكم الشرعي؛ لذا سميت بالشبهة الحكمية.
القسم الثاني: الشبهة المحلية، وهي التي ترد على المحكوم فيه، الذي هو محل الحكم من حيث دخوله تحت حكم الشارع من حل أو حرمة أو غير ذلك.
إذاً: هذه أيضاً مجال ثان من تحقق الشبهة في المحل.
المجال الثاني: الشك في الحكم الشرعي الطارئ بسبب الشك في الواقع، فيطرأ الشك في الحرمة والوجوب أو الإباحة؛ فيحتاط المكلف من نفسه، وذلك بالخروج من دائرة الخلاف؛ فإذا طرأ الشك في الحرمة -أي بين الحل والحرمة- أو بين الوجوب والاستحباب ونحو ذلك، فإن المكلف يحتاط لنفسه، فإنه -مثلاً- لا يخرج من عهدة الواجب إلا بيقين أو ظن غالب إذا كانت المسألة مترددة بين الوجوب والاستحباب.
على أن الاحتياط في جملته مطلوب فيما علم أمره وتحقق فيه يقيناً اختلاط الحلال بالحرام أو ظن ذلك ظناً غالباً -إما يقين أو ظن غالب- وذلك بقرائن وعلامات توصل إلى ذلك، كما لو كان في بلاد المسلمين أو مع فساق لا يتورعون عن اقتراف المنهيات، أما إذا كان في ديار المسلمين ولم يظهر ما يدعو إلى الاشتباه، فلا ينبغي التدقيق والإلحاح في الأسئلة مع أعيان المسلمين، بل قد يصل الأمر إلى تحريم السؤال إذا كان فيه إيذاء لمسلم ظاهره الاستقامة.
- موضع عموم البلوى:
يظهر عموم البلوى في موضعين:
الموضع الأول: ما تمس إليه الحاجة في عموم الأحوال، بحيث يعسر الاستغناء عنه إلا بمشقة زائدة.
الموضع الثاني: شيوع الوقوع والتلبس بحيث يعسر على المكلف الاحتراز عنه أو الانفكاك منه إلا بمشقة زائدة.
إذاً: هو جانبان؛ إما أن يكون مس حاجة وضرورة يحتاجها المكلف، أو جانب بلاء واقع لا يستطيع الإنسان أن ينفك أو يحترز عنه، كأنهما وجهان -كما يقال- لعملة واحدة، ففي الموضع الأول ابتلاء بمسيس الحاجة، وفي الموضع الثاني ابتلاء بمشقة الدفع، ويضبط ذلك ميدانان أساسيان:
الأول: نزار الشيء وقلته، فمشقة الاحتراز من الشيء، وعموم الابتلاء به قد يكون نابعاً من قلته ونزارته، ومن هنا كان العفو عن يسير النجاسات وعن أثر الاستجمار في محله، والعفو عما لا يدركه الطرف وما لا نفس له سائلة، وونيم الذباب -فضلات الذباب- وما ارتش من الشوارع مما لا يمكن الاحتراز عنه وما ينقله الذباب من العذرة وأنواع النجاسات، فهذا يعفى عنه لعموم البلوى لأنه يشق الاحتراز عنه.
الثاني: كثرة الشيء وشيوعه، كما أن عموم الابتلاء ومشقة التحرز قد تكون نابعة من تفاهة الشيء ونزارته، كذلك قد يكون الأمر لكثرته وشيوعه، فيشق الاحتراز عنه ويعم البلاء به.
وقد نبه الغزالي إلى أن الغلبة التي تصلح عذراً في الأحكام ليس المراد بها الغلبة المطلقة، وإنما يكفي أن يكون الاحتراز أو الاستغناء عنها فيه مشقة وصعوبة، نظراً لاشتباهه بغيره من الحلال والمباح، واختلاطه به وامتزاجه معه بحيث يصعب الانفكاك عنه كما هو ظاهر في بعض صور النجاسات والمستقذارت واختلاط الأموال.
معذرةً أحياناً إذا كانت بعض العبارات فيها شيء من الجفاف كما تقتضيه أحياناً بعض العبارات العلمية على أني حرصت حقيقة أن أبسط قدر الإمكان، لكن على كل حال إن كنت أحسنت ففضل من الله، وإن كان غير ذلك فأرجو العفو والمعذرة.