للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[التوحيد وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم]

الحقيقة عندي أشياء لا يتسع الوقت لإتياني عليها كلها، ولكني سأوجز فيما يتعلق بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم ومسيرة التوحيد في سيرته عليه الصلاة والسلام

كما قلت في مطلع الحديث: أن بعض الناس يظن أن التوحيد كان خاصاً بالعهد المكي، وبعدها كأن القضية انتهت، وهذا غير صحيح، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم من أول ما ظهر إلى أن توفي عليه الصلاة والسلام وهو يدعو إلى التوحيد، ولم يفتر لحظة واحدة.

منذ أن نزل عليه: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر:٥] وهذه الآية من أوائل ما نزل -كما هو معروف- بل هي أصل دعوة التوحيد، وهذا أمر معروف، والأمر فيها أمر فردي.

ثم جاءت قضية دعوة الأقربين -لأن الدعوة كانت مرحلية- قال له: {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ * وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء:٢١٣ - ٢١٤] وهذا كله مكي، لكن لاحظ كيف كان التدرج في الدعوة.

ولما أمر بالصدع: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر:٩٤] ففيه تنبيه لقضايا التوحيد وقضايا التحذير من الشرك، وهذا التدرج شيء عجيب، وعجيب أيضاً ملاحظة العلماء لهذا، فإنهم ما تركوا شيئاً رحمهم الله، وهذا الكلام ليس من عندي، بل هو في كتب متخصصة تبحث في التوحيد، وخاصة أن بعض العلماء لاحظ أن القضية ليست خاصة بالعهد المكي.

ثم في الهجرة قال الله عن نبيه قوله: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:٤٠] وهذا توحيد.

وكذلك قُبيل الإذن بالقتال، قال الله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج:٣٩ - ٤٠] وهذا أيضاً تدرج، فإن المرحلة التي جاء الإذن فيها بالقتال يعتبرها الناظرون في تاريخ التشريع مرحلية، لأن الإذن بالقتال جاء متدرجاً، وحتى في هذا المرحلة كان فيها الحديث عن التوحيد، مع أن القضية المكية قد تكون انتهت بفتح مكة، قال الله: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} [الإسراء:٨١] ومعلوم أن هذه الكلمة قالها النبي صلى الله عليه وسلم وهو يكسر الأصنام التي حول الكعبة.

وفي كل بعوثه التي بعثها، ومعلوم أن البعوث كانت في المدينة حينما بعث علياً، وحينما بعث معاذاً وأبا موسى، والرسل والكتابات كلها تدعو إلى التوحيد يقول عليه الصلاة والسلام لـ معاذ: {إنك ستأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله} وكذلك علي رضي الله عنه عندما بعثه إلى خيبر، وكما قلنا: أن النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مرضه الذي مات فيه كان يقول: {لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد} وهذا هو لب التوحيد في آخر أيامه عليه الصلاة والسلام.

وهناك نصوص أخرى غير ما ذكرنا لأن الموضوع ينبغي ألا ينتهي عند هذا، وكما قلنا في قوله صلى الله عليه وسلم: {لقنوا موتاكم لا إله إلا الله} وكذلك: {من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة} {من أحق الناس بشفاعتك يا رسول الله؟ قال: من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه}.

وختاماً أقول: لم تخلُ فترة من فترات النبوة من إعلان التوحيد وشواهده ومحاربة الشرك وظواهره، بل يكاد ينحصر غرض البعثة كلها في ذلك، فما ترك عليه الصلاة والسلام تقرير التوحيد وهو وحيد، ولا ذهل عنه وهو محصور في الشعب، ولا انصرف عنه وهو في مسالك الهجرة، والعدو مشتد في طلبه، ولا قطع الحديث عنه وأمره ظاهر في المدينة بين أنصاره وأعوانه، ولا أغلق باب الخوض فيه بعد فتح مكة الفتح المبين، ولا اكتفى بطلب البيعة على القتال، حيث كانت البيعة: ألا يشرك بالله شيئاً، ولم يفتر عن تكرار عرض البيعة على التوحيد ونبذ الشرك، فهذه سيرته المدونة وأحاديثه الصحيحة، والقرآن من وراء ذلك كله.

من أجل هذا كان التوحيد أولاً، وكان هو الأول، ولا بد أن يكون أولاً في كل عصر وفي كل مصر أقول هذا القول والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.