ومن الآداب: حصر المناظرات في مكان محدود، هذه قضية دقيقة، وأظن أن أكثر من نبه إليها علماؤنا المتقدمون، وهي قضية دقيقة، وأظنها تحتاج إلى نظرة، وقد تكون مستغربة، وهي حصر المناظرات في مكان محدود، ما معنى ذلك؟
أهل العلم يقولون: إن المحاورات والجدل ينبغي أن يكون في خلوات محدودة الحضور، قالوا: وذلك أجمع للفكر والفهم، وأقرب لصفاء الذهن، وأسلم لحسن القصد، وإن في حضور الجمع الغفير ما يحرك دواعي الرياء والحرص على الغلبة بالحق والباطل، مع الأسف في الوقت الحاضر الآن أصبحت محاورات تلفزيونية خاصة في الخارج بين رؤساء الأحزاب، وبين المرشحين للانتخابات، غالباً هذه المحاورات لا تؤدي إلى حق، إنما استعراض عضلات، وتقديم طروحات كاذبة، وكما يقال: كل واحد يطرح مشروعه الانتخابي، وكل مشروع كذاب، لماذا؟
لأنهم أمام الجمهور، ويريدون مجرد المفاخرة، والرياء والأطروحات الكاذبة، ولو انفردوا بأنفسهم وصدقوا، لكانت مصلحة الوطن أجدى وأولى وأوصل للحق؛ لكن القضية من أجل الفوز في الانتخابات واستمالة الجمهور، وهم كذابون، ولهذا أكثر الطروحات الانتخابية كاذبة وأفاكة، ولا يصلون إلى شيء، بل حتى على مستوى الانتخابات الأمريكية وغيرها يطرحون أشياء، وتجد الرئيس حينما يذكر، يشتغل في قضايا السياسة الخارجية، ويذهب عن كثير من القضايا التي وضعها في سياسات اقتصادية، أو سياسات اجتماعية، أو أشياء غيرها، لأن القضية جماهيرية، ولا يكادون يلتزمون بأدبيات الحوار؛ لأنه لا يريد أن ينهزم أمام الجمهور، أو أمام جمهوره الذين يرغبون ترشيحه، ولهذا يذكر أهل العلم عن المحاورات أنها ينبغي أن تكون في خلوات، واستدل أهل العلم بآية لطيفة من كتاب الله عز وجل، وهي قوله تعالى:{قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا}[سبأ:٤٦] فالله عز وجل أمر نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقول لقومه: ما جئت به، فكروا به منفردين؛ لأنكم إذا فكرتم متداخلين، كل واحد يتعصب، ولهذا في قصة طويلة حقيقة ذكرها المؤرخون أن أبا سفيان بن حرب، وأبا جهل بن هشام، والأخنس كانوا يستمعون إلى النبي صلى الله عليه وسلم كل واحد منفرد، فإذا خرجوا تقابلوا في الطريق، ثم تعاهدوا على عدم السماع، فكان كل واحد منهم يسمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن معجباً به، لكن إذا اجتمعوا كل واحد كذب على الآخر، حتى قال بعضهم: لا نبرح حتى نتعاهد ألا نعود، لكن في النهاية قال: يا أبا ثعلبة والله لقد سمعت أشياءً أعرفها، وأعرف ما يراد بها، وسمعت أشياءً ما عرفت معناها، قال الأخنس: وأنا، إلى أن قال: خرج الأخنس من عندي حتى أتى أبا جهل، فدخل عليه بيته، فقال: يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد؟
فقال أبو جهل: تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاشينا على الركب -أي: تساوينا- وكنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبي يأتيه وحي من السماء، فمتى ندرك هذا؟ ما معنا إلا أن نكذب فقط، والله لا نؤمن به، ولا نصدقه، قال: فقام من عنده الأخنس وتركه.
فلذلك قال تعالى:{قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى}[سبأ:٤٦] فالإنسان إذا انفرد يكون أقرب إلى قبول الحق، أما أمام الناس، فذلك يؤدي كثيراً إلى حجب الحق والوصول إلى الحقيقة.