[التفسير العلمي والفقهي لاعتبار العرف]
أما التفسير العلمي أو الفقهي لاعتبار العرف، فلا ينبغي أن يفهم من اختلاف الأحكام باختلاف العادات أنه اختلاف في أصل خطاب الشرع، بل معنى هذا الاختلاف أن العادات إذا اختلفت اقتضت كل عادة حكماً يلائمها، وسوف نرى هذا بعد تفصيل بعض المسائل التطبيقية، اقتضت فيها كل عادة حكماً يلائمها، فالواقعة إذا صحبتها عادة اقتضت حكماً غير الحكم الذي تقتضيه عندما تقترن بغيرها من العادات.
فإذا جرت عادة قوم باستقباح كشف الرأس كان التعزير بكشف الرأس مجزئاً.
مثلاً: الحكم الشرعي هو التعزير، فتغير الحكم حينما يكون التعزيز بكشف الرأس، وفي بلد لا يكون كشف الرأس قبيحاً فلا يكون ذلك تعزيراً.
فلم يتغير الحكم، وليس تغيراً للحكم ولا تغيراً للدليل ولا للنص، إنما العادة نفسها قد تغيرت نظرة الناس إليها، فكان التغير في الحكم.
فإذا جرت عادة قوم باستقباح كشف الرأس كان التعزير بكشف الرأس مجزئاً، وإذا لم يكن كشف الرأس في عادة قوم مستقبحاً امتنع أن يكون طريقاً كافياً للتعزير.
ولابد للقاضي من اتخاذ طريق آخر كما سيأتي معنا أيضاً في تمثيل العدالة؛ والعدالة معلوم أنها مقصودة ومطلوبة شرعاً، لكن بم تكون؟ أحياناً قد تختلف عادات الناس في أشياء لأنهم ضبطوا العادة بالمروءة، والمروءات أمور مرتبطة بالعادات، فحتى كشف الرأس أحياناً إذا كان مستنكراً في بلد، يكون خلافاً للمروءة، الأكل في الأسواق -وسوف يأتي التمثيل بهذا- كان في زمن من الأزمان وفي بلد من البلدان أمراً مستنكراً، ومن أكل في الأسواق قد يكون في بعض البلدان يخالف المروءة، أما الآن في كثير من البلدان لا يكون مخالفاً للمروءة، ومن هنا لا يقدح في العدالة.
إذاً: العدالة محفوظة والتزام العدالة فيما التزمت به شرعاً من الشهادات وغيرها منضبط ومعتبر، لكن عادات الناس حينما اختلفت وقع مثل هذه.
ولابد للقاضي من اتخاذ طريق آخر في التعزير، يكون له وقع الألم في نفس المستحق للتعزير، فخطاب الشرع الذي تعلق بالواقعة المقتضية للتعزير حال صحبتها للعادة، استقباح كشف الرأس غير الخطاب الذي يتعلق بواقعة مثلها يصاحب عادة عدم استقباح ذلك.
يوضح ذلك أن هناك أوصافاً ربط الشارع الحكم بها، وبنى عليها أمر الناس، فالعدالة -مثلاً- شرط في قبول الشهادة بنص كتاب الله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:٢] وحينما تراجع كلام أهل العلم وتأليفاتهم للعدالة وأوصاف أصحابها، تلاحظ أنهم يربطونها بمألوف الناس، ودلائل التعقل والمروءة، وهذا حق لا مرية فيه، ولكنْ معلوم أن هذا متغير، فما يكون مألوفاً في بلد قد لا يكون في البلد الآخر وكذلك عند اختلاف الزمن.
وليزداد الأمر عندك وضوحاً: السير مكشوف الرأس أو الأكل في الأسواق، كان في يوم من الأيام أو بلد من البلدان مظهراً من مظاهر قلة المروءة، واستمع في ذلك إلى القرافي في فروقه حين يقول:
ما الصحيح في هذه الأحكام الواقعة في مذهب الشافعي ومالك وغيرهما المرتبة على العوائد والعرف الذين كانا حاصلين حالة جزم العلماء بهذه الأحكام؟ فهل إذا تغيرت تلك العوائد وصارت العوائد تدل على ضد ما كانت تدل عليه أولاً، فهل تبطل هذه الفتاوى المسطورة في كتب الفقهاء ويفتى بما تقتضيه العوائد المتجددة، أو يقال نحن مقلدون وما لنا إحداث شرع لعدم أهليتنا للاجتهاد، فنفتي بما في الكتب المنقولة عن المجتهدين؟
ويجيب على تساؤله هذا رحمه الله ويقول: إن استمرار الأحكام التي مدركها العوائد مع تغير تلك العوائد خلاف الإجماع وجهالة في الدين، بل كل ما هو في الشريعة يتبع العوائد يتغير الحكم فيه عند تغير ما تقتضيه العادة المتجددة، وليس هذا تجديداً للاجتهاد من المقلدين، حتى يشترط فيهم آلية الاجتهاد، بل هذه قاعدة اجتهد فيها العلماء وأجمعوا عليها ونحن نتبعهم فيها من غير استئناف.
من كل ما تقدم يتبين بلا ريب أن للظروف الملابسة للأشخاص أو للوقائع والأحداث أثراً في إدراك العلل وتوجيه الاستدلال بمدركه ودليله وتبين مسالك تطبيقه ضماناً لمشروعية نتائجه، إذ العبرة بالنتائج العملية الواقعة أو المتوقعة، وبيان ذلك أن الظروف المتجددة الواقعة أو المتوقعة والتي تلابس الأشخاص أو الوقائع، ينشأ عنها دلائل تكليفية جديدة تقتضي أحكاماً جديدة تناسبها، وبما أن الظروف تتغاير وتتمايز باضطراب؛ فاقتضى هذا وجوب اعتبارها شرعاً.