أيها الإخوة: ويسهل الدرس، وتتضح العبرة، وتتجلى الصورة حين تنظر الأمة في ماضي تاريخها، لا في تاريخ غيرها، وحين تكون التجربة قد مرت بها لا بغيرها.
ومن أجل هذا فهذه دروس ووقفات مع تاريخ عجيب ودرس ثقيل، وتجربة مرة في فردوس مفقود؛ في أرض بقي فيها المسلمون ثمانية قرون، ثم خرجوا منها بل أخرجوا، وكأن لا أثر لهم فيها ولا عين ما الذي أدخلهم؟ وما الذي أخرجهم؟
ما أكثر العبر وما أقل الاعتبار! وتوشك أن تشبه الليلة البارحة، إنهم أسلافنا وأجدادنا في بلاد الأندلس دخلوها بالإسلام فاتحين، وبالعقيدة مستمسكين، ومن عالي الأخلاق متمكنين لأوامر ربهم متبعين، وعن مناهيه ومساخطه متباعدين كيف دخلوا؟ يقول أحد النصارى في رسالة بعث بها إلى ملكه يصف فيها جيش المسلمين الذين عبروا إلى بر الأندلس بقيادة طارق بن زياد: لقد نزل بأرضنا قومٌ لا ندري أهبطوا من السماء، أم نبعوا من الأرض؟
إنهم القادة والملوك: موسى بن نصير، وطارق بن زياد، والسمح بن مالك، وعبد الرحمن بن حكم، وعبد الرحمن الغافقي في كوكبة من القادة والسادة.
فهاهو عبد الرحمن الداخل صقر قريش، ينزل من البحر فتهدى إليه جارية بارعة الجمال، فينظر إليها ويقول: إن هذه لمن القلب والعين بمكان، وأنا إن لهوت عنها بهمتي وبمهمتي ظلمتها، وإن لهوت بها عما أطلبه ظلمت همتي ومهمتي، ثم قال: والله لا حاجة لي بها.
لقد سار المسلمون في الأندلس في عزة وقوة ومنعة ووحدة وتماسك على هذا النهج.
يذكر ابن تغري بردي: أن المنصور بن أبي عامر كان يسهر على مصالح رعيته، وكانت متابعته لأمور رعيته تستنفذ كل وقته، حتى أنه كان لا ينام إلا سويعات متفرقات، فقيل له: لقد أفرطت في السهر وبدنك يحتاج إلى نومٍ أكثر من هذا.
فأجاب: إن الراعي لا ينام إلا إذا نامت الرعية، ولو استوفيت نومي لما كان في بيوت هذا البلد العظيم عينٌ نائمة.
هذه هي صورة القوة، وحسن الرعاية، وصدق الحماية، وحفظ البلاد، ولقد بقوا على ذلك قروناً طوالاً محافظين على دينهم، معتزين بإسلامهم، متوحدين في كلمتهم، يجسد ذلك قول بعض المؤرخين من المسلمين: بقينا في الأندلس ما بقينا مع الله، وضاعت الأندلس منا لما أضعنا دين الله.