[فجر الإسلام ورجالاته]
الحمد لله ذي الألطاف والنعم، أحمده سبحانه وأشكره هو ذو الجود والإحسان والكرم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق فأبدع، وصنع فأحكم، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله المبعوث إلى جميع الأمم، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله رحمكم الله، وأحبوه من كل قلوبكم، فمن امتلأ قلبه بمحبة ربه كمل أنسه، وطاب عيشه، وخف تعلقه بالشهوات، وزاد إقباله على الطاعات، والقلب لا يغنيه ولا يلم شعثه إلا محبة الله وحسن عبادته، ومن أحب الله أحب الله لقاءه، ومن أحب الله استعد للقائه ولم يتعلق قلبه بالدنيا ومطالبها، وعكفت همته على الله ومحبته وإيثار مرضاته، ومن تفكر في عواقب الدنيا أخذ الحذر، ومن أيقن بطول الطريق تأهب للسفر.
أيها المسلمون! الناظر في تاريخ الأمم والديانات لا يجد أمة حفلت بالرجال وصنعت بإذن الله الأبطال، وقيادات الأمم وصناع الحضارات عبر الأجيال كما يجد في أمة الإسلام التي تأدبت بأدب القرآن، وتربت في مدرسة النبوة المحمدية: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:٢].
لقد كانت دعوة الإسلام المباركة مفتاحاً للطاقات الكامنة في الإنسان، وإعمالاً للعقل بعد أن زكاه الإسلام، وأشرقت جوانبه بنور القرآن، وسارع في العمل المثمر على هدي محمدٍ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، انطلق الأميون في كل بقاع الدنيا، وفي شتى ميادين المعرفة والحياة يقودون الناس بدين الله، أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم أجمعين، هم حفظة القرآن الكريم وحملته، وأوعية السنة، بسبب وقائعهم وأحوالهم وأحداثهم تنزلت آيات التشريع والأحكام، ومن أجل تعليمهم وردت السنة المطهرة، وعن طريقهم انتشرت الدعوة، وأضاءت بأنوارها مشارق الأرض ومغاربها.
لقد كان منهم من تعجز الأجيال أن تأتي بمثله، أبو بكر الصديق وعمر الفاروق وعثمان ذو النورين وعلي أبو السبطين وأبو عبيدة أمين الأمة وخالد سيف الله، في قضايا ولا أبا حسنٍ لها، رضي الله عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرضاهم أجمعين.
ثم جاء من بعدهم أجيال، ولدوا في الإسلام، ورضعوا من المهد معارفه، ثم تحولت هذه العلوم والمعارف في مجتمع الإسلام إلى مدارس ومناهج في كل المجالات، إيذاناً ببدء مرحلة التخصص في العلوم والفنون، في الحديث والرواية، والفقه والدراية، والجرح والتعديل، وعلوم القرآن والتفسير، والأصول والاستنباط، ولكل مدرسة رجالها الذين لا يجارون، وعلماؤها الذين لا يبارون، انقضت عصورهم وحفظت علومهم، وانتهت أجيالهم بعد آجالهم، وما زالوا عمالقة يقودون الدنيا بعلمهم، ويتتلمذ التاريخ كما يتتلمذ الباحثون وطلاب العلم على تراثهم.
بليت أجسادهم وبقيت آثارهم في نتاج عقولهم، وأضاءت الدنيا بثمرات علومهم، مدارس ومناهج أخرجت للأمة أمثال الحسن البصري، وسفيان الثوري، وعطاء بن أبي رباح، والليث بن سعد، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، والأوزاعي، وربيعة الرأي، وجعفر الصادق، وابن شهاب الزهري، والأئمة الأربعة، والبخاري ومسلم، وغيرهم كثيرٌ وكثير، مما لا يحصيه عد، ولا يقع تحت حصر.
تلقت الأمة بالقبول من هذه المذاهب والمدارس ما وصل إليها، وما كان لها من حواريين دونوا مسائلها، وصنفوا نفائسها، وحفظوا أقوالها، وأصلوا أصولها، وبسطوا فروعها، رجالات حملوا الفقه والدين، وأرسوا مدارس الاجتهاد والفتوى.
وما كانت هذه المذاهب بأئمتها رحمهم الله يوماً، تسلك منهجاً غير الكتاب والسنة، وما كانت يوماً تدعو إلى العمل بخلافهما، إذا تبينت لها الدلالة من النص وصح عندها السند من السنة، وإنهم برآء مما يذكر من تعصب أو خلاف مذموم، لقد كان هؤلاء الأئمة الأعلام وتلاميذهم المخلصون أشد الناس تحذيراً من الانحرافات باسم المذهبية، أو التقليد المتعصب، وأقوالهم في ذلك موفورة مشهورة، كلهم يقول: لا يجوز لأحد أن يقول قولنا من غير أن يعرف دليلنا، وما صح من الحديث فهو المذهب، لا خلاف بين أحدٍ منهم على تقديم الكتاب والسنة على كل ما عداهما، وكلهم يجلون الصحابة رضوان الله عليهم ويأخذون بأقوالهم وفتاويهم واجتهاداتهم، كما يحترمون السلف ويقدرون آراءهم ويجلون استنباطاتهم.
أئمة كرام وعلماء أعلام اتبعوا السنن، وسلكوا المسالك الصحيحة في الاجتهاد، فيهم من كثر عنده حملة السنن ورواة الأثر، ومنهم من كان يميل إلى الرأي لبعد داره عن متنزل الوحي، لقد بذلوا أقصى ما بوسعهم في تعريف الناس بدين الله ودعوتهم إليه.