للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[التلقي عن المشايخ والعلماء]

من وسائل العلم المعروفة التلقي عن المشايخ، وعدم تعجل التصدر، وهذان الأمران مهمان جداً في أن يحقق الإنسان حقيقة الفقه في دين الله عز وجل، أما التلقي عن المشايخ، فهو أصل من أصول العلم الصحيحة، ومن البدايات الصحيحة لطالب العلم، والطريق المأمون بإذن الله وتوفيقه، ويخطئ من يظن أنه يبلغ في العلم مبلغه من غير تلقٍ عن أهل العلم.

ولهذا قيل:

إذا رمت العلوم بغير شيخ ضللت عن الطريق المستقيم

لا بد للإنسان أن يتلقى العلم عن شيخ، وهناك استثناءت نذكرها.

وهناك فوائد من التلقي عن المشايخ:

منها: أن الشيخ يختصر لك الطريق، في إرشادك وفي تعريفك بالكتب، وفي تخير الكتب لك على حسب مستواك وإدراكك الذهني، وعلى حسب طموحك واجتهادك، لأنكم تعرفون أنه قد يدرس مجموعة من الطلاب، ثم بعد فترة إذا هذا قد نبغ وهذا لم ينبغ، ولكن في النهاية يخرجون كلهم محصلين، فالشيخ يستطيع أن يعرف كيف يعطي هذا الكتاب الفلاني، ثم ينقله إلى الكتاب الآخر وهكذا.

فالشيخ يختصر لك الطريق لأنه يعرفك وهو بك أبصر من حيث كسلك وإدراكك العقلي، ثم إن الشيخ قرأ كثيراً وقطع مراحل، وله خبرات عشرات السنوات، فهو يعرف الضعيف والصحيح والراجح والمرجوح، ويعرف المصطلحات ويبين لك، فإذا قرأت أنت بنفسك فإنك تحتاج إلى سنين وتتعثر، أما مع شيخك فسوف تجد أنك قطعت سنين كثيرة قد لا تصل إلى نفس المرحلة التي سوف تصلها وأنت تتلقى من شيخ، وربما قضيت فيها عشرين سنة، بينما كان يكفيك لتبلغ هذه المرحلة خمس سنوات أمام الشيخ.

ومنها: أن الشيخ يقرأ أحسن ما يجد، ويحفظ أحسن ما يقرأ، ويبث لتلاميذه أحسن ما يحفظ؛ فهو يعطيك خلاصات، لبناً خالصاً سائغاً للشاربين من بين فرث ودم.

ومنها: أن هناك ارتباطاً بين التلميذ والشيخ، وهو ارتباط عجيب، أحياناً تقرأ شيئاً بنفسك فلا تفهمه، وإذا قرأته على الشيخ فهمته بسرعة، وهذا شيء ملحوظ، ولهذا يقول الشاطبي: كم من مسألة يقرؤها المتعلم بنفسه ويحفظها ويرددها، فلا يفهمها، وتبقى مستغلقة عليه، فإذا ما ألقاها إليه معلمه وشيخه فهمها بغتة -أي: مباشرة من غير أي واسطة- وحصَّل معرفتها في الحال.

ويحكى أن الإمام النووي رحمه الله كان يحفظ كتاب التنبيه لـ أبي إسحاق الشيرازي، والإمام النووي معروف بعلمه وفضله وعظم قدره، وكان أيضاً يتلقى العلم عن المشايخ، لكنه أثناء قراءته فهم أن الغسل يجب بخروج الريح، فكان كلما خرج منه ريح ذهب فاغتسل، حتى اكتشفه فيما بعد، لأن الإنسان قد يقرأ ويفهم خطأً، وهذا كله في وقت التلقي، فلن يقضي الإنسان عمره كله في الجلوس عند المشايخ، لكنك تفرغ مرحلة الطلب للمشايخ، وبعد ذلك لا شك أنه ستكون قد عرفت الطرق، وقد تكون لك صلة بالمشايخ بطريقة أو بأخرى، تعرف من خلالهم الوسائل والكتب والمراجع والمصادر، لكن المشايخ في فترة الطلب يوفرون لك الوقت، ويختصرون لك الطريق.

رابعاً: من ثمار التلقي التأثر بالشيخ، ولهذا ينبغي للإنسان أن يتحرى الشيوخ الذين يتلقى عنهم، بل -كما تعلمون- ما كانت الرحلة في طلب العلم إلا لتحصيل العلم من شيوخ بأعيانهم أيضاً، والتفتيش عن أمثال هؤلاء الشيوخ؛ ومن فوائد ذلك التأثر بحسن الاقتداء، فالطالب يجالس شيخه ويلحظه، ويستفيد من حركاته وسكناته، قال الأعمش: إننا نستفيد من الشيخ حتى في لبس نعله، وقد تصحبه إلى بيته أيضاً، وتلحظ شيئاً من تصرفاته البيتية.

يقول عمرو بن الحكم تلميذ الإمام مالك: دعانا الإمام مالك مع جملة من الطلبة إلى بيته للغداء، فلما دخلنا أرانا بيت الخلاء، وأرانا مكان الشرب، ثم دخل قليلاً ثم عاد إلينا، فقلنا له: لماذا فعلت هذا؟ قال: أما بيت الخلاء ومكان الشرب فأخشى أن يحتاجه بعضكم، وأما أني دخلت قليلاً فحتى تأخذوا أماكنكم؛ لأني قد لا أعرف مجالسكم، يقول: دخلت حتى تأخذوا مجالسكم بأنفسكم ثم أتيت حتى يرتفع الحرج فهو يقول: لا أعرفكم كلكم، ولعل بعضكم يستحق التقديم، وأخطئ في حقه، فيكون ذلك على نفسي، فآثرت السلامة.

إذا كان الأمر كذلك، فينبغي لطالب العلم أن يتحرى الشيوخ من أهل العلم والفضل والورع والتقى وسلامة المعتقد؛ لأن أثر الشيخ على تلاميذه عظيم، يقول أحد السلف: [[العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم]] لكن الشيوخ بشر، وقد تجد عندهم نقصاً، لكن هذا النقص لا ينبغي أن يمنعك من أن تتلقى منه فَنَّه، إذا كان لا يوجد من هو أصلح منه؛ لأن بعض الفنون يتقنها بعض الناس، وقد لا يكون هو بالحال المرتضى في كل شأنه، فلا مانع أن تتلقى علمه الذي اختص به؛ إن وجدت خيراً منه وأتقى وأورع فلا وإلا أخذت عنه، ولهذا يقول: خذ العلم ولا تنظر إلى عملي، لكن على كل حال هذا في الأحوال المستثناة.