للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تخلي الأمة عن تاريخها سبب من أسباب انهزامها]

وماذا حدث أيها الإخوة؟!

لقد جاءت عهود الاحتلال من قِبَل الأعداء، فاحتُلَّت كثيرٌ من ديار المسلمين، وتنبه هؤلاء الأعداء المحتلون لدور هذا التاريخ وأثره في ربط المسلمين بدينهم ومجدهم، في يومهم وشهرهم وعامهم.

لقد أدركوا دور هذا في الدين والتاريخ، فخططوا للفصل بين ذاكرة الأمة وتاريخها، فأدخلوا تاريخاً لا يمت لشعائر الإسلام بصلة، ولا تذكّرها أيامه وشهوره وأعوامه بدينها وأحكامها ومجدها، بل إنه تاريخٌ يُشَوِّش الأذهان، ويخلط الأزمان، تاريخٌ يُشْعِر المسلمين بالذلة والتبعية والدونية.

لقد عمل الأعداء ودأبوا حتى استطاعوا اقتلاع التاريخ الهجري الإسلامي العُمَري الراشدي من جميع بلاد المسلمين، ما عدا بلاد الحرمين الشريفين، صانها الله وحماها، وستظل بإذن الله حافظةً للعهد، قائمة بالحق، صامدةً ثابتة، مع علمنا وإدراكنا لمحاولة الأعداء التي لا تنثني -مما يؤكد ضرورة اليقظة- ولكنها ثابتةٌ بإذن الله، وكيف لا يكون ذلك، وهي البلاد التي تُحَكِّم شرع الله، وانطلقت منها البعثة والهجرة، وانبعثت منها أفواج الفتوح ورايات الحق؟!

أيها الإخوة: إن موقف الدرس والعبرة، وحديث العزة والهجرة، ليستوقف المتأمل، كيف ألغت غالبية المسلمين من ذاكرتها الشهور الهلالية، والسنين الهجرية، والقرون الإسلامية، وأحلت محلها تاريخ الأعداء وقرون المحتلين؟!

الله أكبر! ما هذه الذلة؟! وما هذه المهانة؟!

لقد جعلوا التاريخ الذي وضعه يوليوس قيصر بدلاً من التاريخ الذي وضعه عمر إمامهم وخليفتهم وصاحب نبيهم صلى الله عليه وسلم؛ ورضي الله عن عمر وعن الصحابة أجمعين.

لقد رحل المحتل بعسكره، ولكنه مع الأسف قد غرس البذور في رءوس المنهزمين والمهازيل والأذلاء، فحصلت الاختراقات المطلوبة، فعندما رحل الأعداء كان الطمس قد عم، والانحلال قد حل، وإن شئتم مزيداً من المآسي؛ فانظروا كم تتحدث الصحف ووسائل الإعلام عن الاستعداد والتخطيط لدخول القرن الحادي والعشرين.

إنها أمورٌ تُحْشَر حشراً، وإصرارٌ على حشو الأذهان بها قسراً، وكأن دورة الكون والتقدم الحضاري للبشرية، مرتبطة بهذه القرون وحدها.

إنكم لتعلمون، ويعلم كل منصفٍ عزيزٍ مستقل، أن التقدم الإنساني ليس مرتبطاً بقرنٍ دون قرن، فالمسيرة الإنسانية قد بدأت فيما مضى، وسوف تستمر بإذن الله وما شاء الله، ولا علاقة لها بحساب السنين من أي نوعٍ كان، شمسياً أو قمرياً أو غيرها.

أيها الإخوة: إنه لمن المحزن والمخزي، وإنه لمن الذلة والهوان أن ترى دول الإسلام تؤرِّخ وتحتفل وتبتهج بتاريخ الذين طمسوا دينها، وألغوا تاريخها، وامتهنوا موروثاتها.

كيف ترضى أمةٌ هي خير أمةٍ أخرجت للناس، بمن يمحو ذاكرتها، وذاكرة شعوبها، ويلغي تاريخها ويطمس مجدها؟!

وإن مما يسوء أن ترى أقلاماً في الأمة، وعقولاً في الناس، قد جدَّت في سلوك مسالك السخرية بتراث الأمة، والتشكيك في ثوابتها، ليتجلى فيها ومن خلالها إهدار الكرامات، واستباحة الحرمات، وتَرْهَقَ الوجوهَ الذلةُ، ويروجَ الباطلُ، وينزوي الحق، ويسود المنكر، ويتلاشى المعروف.

إنها زرافاتٌ من حملة الأقلام، ووجوه الإعلام، قد صُنِعَت رءوسهم خارج ديار الإسلام.

إن تصورَهم لكثيرٍ من حقائق الإسلام، وحكمَهم في كثيرٍ من القضايا لا صلة له -والله- بدين الله، ولا ارتباط له البتة بشرع الله، بل مع الأسف كل الأسف أن آخر ما يهتمون به هو الإسلام وحاضره وتاريخه ومستقبله ومصيره.

لقد كان المخلصون يظنون أن زوال الاحتلال وانكشاف خطط الأعداء كفيلٌ بإعادة هؤلاء إلى صوابهم، ولقد ازداد الأمر وضوحاً وجلاءً في معركة أهل الإسلام هذه الأيام مع اليهود المحتلين ومَن شايعهم!

أما كان هذا كافياً في مراجعة الحسابات وتصحيح الأخطاء؟!

ولكن مع شديد الأسى لقد كان كثيرٌ من ذلك وهماً، مع علمهم الجازم أنهم هاجت في دمائهم أصول ديانتهم المحرفة ولوثات تعصبهم المقيت، فهجموا على بلاد الإسلام، يبغون محو الأمة والدين والحضارة، وفي ملاقاة هذا العدوان لا تسمع إلا أحاديث الكُتَّاب والمثقفين عن اللهو والغناء، والتسابق المحموم في قنوات الرقص والمجون، فضلاً عن المنكر الصارخ في الإلحاد والتنكر للدين والتاريخ والتراث.