[كلام ابن القيم في الاستجابة لله ولرسوله]
ولـ ابن القيم رحمه الله كلامٌ جميلٌ في الاستجابه لله ولرسوله قال: افترض الله سبحانه وتعالى على عباده طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وتعزيره وتوقيره ومحبته، والقيام بحقوقه، وسد دون جنته الطرق، فلن تفتح لأحد إلا من طريقه عليه الصلاة والسلام، فشرح له صدره، ورفع له ذكره، ووضع عنه وزره، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره، ففي المسند من حديث أبي منيب الجرشي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقومٍ فهو منهم}.
وجانب التشبه اتباع للهوى، وكما أن الذلة مضروبة على من خالف أمره؛ فالعزة لأهل طاعته ومتابعته، قال سبحانه وتعالى: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:١٣٩].
وقال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} [المنافقون:٨] وقال تعالى: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد:٣٥] ويقول سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:٦٤].
قال: وبحسب متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم تكون العزة والكفاية والنصرة، كما أنه بحسب متابعته تكون الهداية والفلاح والنجاح، فالله سبحانه علق سعادة الدارين بمتابعته، وجعل شقاوة الدنيا والآخرة في مخالفته، فلأتباعه الهدى والأمن، والفلاح والعزة والكفاية والنصرة والولاية والتأييد وطيب العيش في الدنيا والآخرة، ولمخالفيه الذلة، والصغار والخوف والضلال والخذلان والشقاء في الدنيا والآخرة.
وقد أقسم صلى الله عليه وسلم بأنه لا يؤمن أحدكم حتى يكون أحب إليه -يعني: النبي صلى الله عليه وسلم- من ولده ووالده والناس أجمعين، رواه أحمد والبخاري والنسائي.
وأقسم الله سبحانه وتعالى بأنه لا يؤمن من لا يحكِّمه في كل ما تنازع فيه، ثم يرضى بحكمه، ولا يجد في نفسه حرجاً مما حكم به، ثم يسلِّم له تسليماً، وينقاد له انقياداً، فقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:٣٦] فقطع سبحانه وتعالى التخيير بعد أمره وأمر رسوله، فليس لمؤمن أن يختار شيئاً بعد أمره وأمر رسوله، بل إذا أمر فأمره حتمٌ، وإنما في قول غيره إذا خفي أمره.
يعني: إذا لم تكن هناك دلالة واضحة من نص حديث النبي صلى الله عليه وسلم أو حتى في القرآن وإنما تبين في قول غيره كقول العلماء به وبسنته، فبهذه الشروط يكون قول غيره سائغ الاتباع، لكنه ليس واجباً، فلا يجب اتباع قول أحدٍ سواه، بل غايته أن يسوغ له اتباعه، ولو ترك الأخذ بقول غيره لم يكن عاصياً لله ورسوله، وهذه قضية مهمة في التقليد، وفي اتباع الهوى، وفي اتباع العلماء وتقديرهم واحترامهم، وهناك فرق بين احترامهم وبين النظر أنهم لا يخطئون، أو التعصب لهم، أو نحو ذلك.
"ولو ترك الأخذ بقول غيره لم يكن عاصياً لله ولا لرسوله، فأين هذا ممن يجب -وهو النبي صلى الله عليه وسلم- على جميع المكلفين اتباعه، ويحرم عليهم مخالفته؟
فلا يمكن أن يُنْصَبَ قول أحد من أهل العلم مقابلاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم، ويجب عليهم ترك قولهم لقوله صلى الله عليه وسلم، فلا حكم لأحدٍ معه، ولا قول لأحدٍ معه، كما لا تشريع لأحدٍ معه، وكل من سواه فإنما يجب اتباعه على قوله إذا أمر بما أمر به، ونهى عما نهى عنه، فكان مبلغاً محَضاً ومخبراً، لا منشئاً ومؤسساً.
فمن أنشأ أقوالاً، وأسس قواعد بحسب فهمه وتأويله، لم يجب على الأمة اتباعها، ولا التحاكم إليها حتى تعرض على ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن طابقته ووافقته، وشهد لها بالصحة قبلت حينئذٍ، وإن خالفته وجب ردها واطراحها، فإن لم يتبين فيها أحد الأمرين جعلت موقوفةً، وكان أحسن أحوالها أن يجوز الحكم والإفتاء بها وتركه، وأما أنه يجب ويتعين، فكلا".
إذاً: هذا فيما يتعلق بالاستجابة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه لا يسع أحداً ألبتة أن يسمع كلام أحدٍ غير كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبخاصة إذا كان معارضاً ومشتبهاً، وهذا يظهر كما قلنا في قضية التقليد، وفيما يدور أحياناً في الساحة بين أهل العلم، والمشتغلين بالدعوة في بعض أنواع التوجهات، أو التعصب نحو عالم من العلماء وبخاصة بعض العلماء المعاصرين، فهؤلاء ينبغي أن يعرف فضلهم وعلمهم وباعهم في الدعوة، ولكن الحق أحب إلينا منهم.
وهذا هو الذي يجب أن يتقرر وإلا فكثيرٌ من الذين يقل فقههم أو من الذين لهم أغراض يظن أو يتظاهر بأنه ينتصر للحق، بينما هو ينتصر لنفسه أو لشيخه، وقد قرر ذلك ابن رجب رحمه الله تقريراً بديعاً في جامع العلوم والحكم.
يقول: "المجتهد قد أدى ما عليه واجتهد، وتوصل إلى ما توصل إليه، لكن المقلد -وخاصة يقصد طلبة العلم المقلدة- تجده ينتصر لقول هذا الإمام سواء كان حنبلياً، أو شافعياً، أو حنفياً، أو حتى معاصراً وهو في قرارة نفسه لم يتمثل أنه الحق، وإنما يريد أن ينصر إمامه".
فالأئمة المجتهدون أو غيرهم براء مما يفعله هذا المقلد لهم، فكثير منهم يقول: إما أنه ينتصر لنفسه، أو ينتصر لشيخه، ويلبس ذلك بأنه ينتصر للحق، فهنا مداخل دقيقة جداً ينبغي أن يتحراها أهل العلم، ويتحراها أهل الدعوة، نسأل الله السلامة.
إذاً: بعد أن تبين وتقرر المقصود بأن حق الاختيار هو لله وحده، كما أن له حق الخلق في قوله تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص:٦٨] ثم تبين لنا كذلك الاستجابة لله ولرسوله، وأن من لم يستجب، فإنه متبعٌ هواه شاء أم أبى، ولو لبس ذلك بلباس الحق، وهذه قضايا كثيراً ما يكون مدخلها قلبي، على معنى لا تستطيع أن تستكشفه.
فحينما يكون هناك ردود بين العلماء -وبخاصة المعاصرين- فالذي يخشاه المطلع أو القارئ أنه يتلمس من ثنايا هذه الردود أن هناك هوى في النفس وتشهياً، وهو لا يريد الحق لمحض الحق، وإنما يريد الانتصار والعلو، ويريد دحر كلام صاحبه، وأحياناً قد يكون من المعالم على هذا والدلائل عليه: اللجوء إلى التجريح الشخصي، فتجده ينال من عرضه، بينما القضية لا تحتمل، ولا يحتاج إلى أنك تتكلم فيه، أو في شخصه، أو في حاله، وإنما يكون الكلام في الباطل الذي أتى به إن أتى باطلاً، أو شبهةً إن كان اشتبه عليه أمر، أو لَبْس إن حصل عليه لَبْس.
أما أن يميل المرء أو يجنح في عباراته إلى النيل الشديد من غير داع، أو استطال في أعراض المسلمين، فهذا لا شك أنه قد يباح عرضه كما ذكر بعض العلماء: أ