[علاقة المحبة بالاتباع]
ولا مانع أن نقف قليلاً عند موضوع المحبة لأنها تقيد موضوع الهوى، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول كما في حديث أنس في البخاري: {ثلاثٌ من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار}.
إذاً: قضية المحبة لا شك أن للنفس فيها مدخل، والله عز وجل وضع في فطر الناس أن يحبوا أشياء، والله سبحانه وتعالى حينما استخلفهم في هذه الدنيا وسخر لهم ما سخر، واستعمرهم فيها -أي: طلب منهم عمارتها- هيأ لهم الوسائل والأسباب، وغرس في فطرهم محبة الدنيا والأموال والأولاد والأزواج والبيوت والبلاد والمساكن، فالإنسان يحب وطنه ومسكنه، ويحب أشياء كثيرة.
إذاً: هذه الأمور فطرية، ونحن نعلم أن الإسلام لا يعارض الفطرة، وأن الأشياء الغريزية مقرة في الدين، ولهذا حينما حرم الزنا أباح النكاح، ولم يلم على محبة المال والأهل، إنما يتبين الهوى -كما سنذكر في صور اتباع الهوى- حينما يكون ثَم ابتلاء، ولهذا في قوله صلى الله عليه وسلم: {أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما} هذا معناه: أنه يحب، فالإنسان في فطرته أنه يحب ولده ومن أحسن إليه، ويحب صديقه وجاره، ويحب ابن بلده أكثر من الغريب، فهذه قضايا معروفة.
ويبين هذا ويقرره آية أخرى، وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْأِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة:٢٣ - ٢٤].
إذاً: أغلب هذه الأشياء المذكورة هي المحاب، وهي التي يحبها الإنسان، ويميل إليها بطبعه، ويفضلها على كثير مما يراه: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ} [التوبة:٢٤] فالإنسان يحب أهله وقبيلته وأبناء بلده، {وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا} [التوبة:٢٤] وكذلك يحب المال، وكل تلك المحبة إنما هي لعمارة الأرض؛ لأنه مكلف بعمارتها على ما أمر الله عز وجل به، لكن حينما يتعارض عنده أمران: شهوة نفسه وزوجه وماله، مع أمر النبي صلى الله عليه وسلم أو أمر الله عز وجل، فإن قدم شهواته ومحابَّه على مراضي الله وأوامره؛ حينئذٍ يكون قد اتبع الهوى، وهذا هو الابتلاء، أما حينما لا يكون هناك تعارض لا يكون هناك ابتلاء كما سنرى في صور اتباع الهوى، ولهذا قال الله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} [الحج:١١].
والهوى أخشى ما يكون في حال الابتلاء والافتتان، ولهذا بعض الناس قبل أن تهيأ له سبل المعاصي واتباع الهوى يؤدي الصلوات الخمس ويستمر في الطاعة، لكن حينما تلوح لائحة هوى، كأن ينفتح له باب تجارة أو باب شهوة من زنا ونحوه؛ فإنه يسقط على وجهه، وبعض الناس قد يحافظ على الصلاة ولكنه يغش في تجارته، أو يرابي أو يرتشي، وهنا الخطورة! يصلي ويتعبد وهو منحرف في اتجاه آخر، هنا يكون محك اتباع الهوى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية:٢٣].
إذاً: بهذا التقرير يتبين معنى قوله سبحانه وتعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص:٥٠].