[انتصار المسلمين يحير أصحاب الموازين المادية]
لقد تحير أصحاب الموازين المادية في تحليل انتصار هذه الطائفة، وتعليل تفوقها، قوةٌ قاهرة من بعد ضعف شديد، ونشاطٌ عجيب من بعد سبات عميق، واستَمِعْ إلى ما ينقله الحافظ ابن كثير رحمه الله من حوار بين المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، وبين يزدجر ملك فارس.
يقول يزدجر: [[إني لا أعلم أمة في الأرض كانت أشقى ولا أقل عدداً ولا أسوأ ذاتِ بَيْنٍ منكم، قد كنا نوكِّل بكم قرى الضواحي ليكفوناكم، لا تغزوكم فارس، ولا تطمعون أن تقوموا إليهم؛ فإن كان عددكم كَثُر فلا يغرنكم منا، وإن كان الجهد دعاكم فرضنا لكم قوتاً، وكرَّمنا وجوهكم، وكسوناكم، وملَّكنا عليكم ملِكاً يرفق بكم.
فأجابه المغيرة: أيها الملك! إنك قد وصفتنا صفة لم تكن بها ظالماً، فأما ما ذكرت من سوء الحال، فما كان أحد أسوأ حالاً منا، وأما جوعنا فلم يُشْبِهه جوع، كنا نأكل الخنافس والجعلان والعقارب والحيات، ونرى ذلك طعاماً لنا، وأما المنازل فهي ظهر الأرض، ولا نلبس إلا من غزل أوبار الإبل، وأشعار الغنم، وحالنا قبل اليوم على ما ذكرت، فبعث الله لنا رجلاً، نعرف حسبه ونسبه وقبيلته، وهو بنفسه كان خيرنا وأفضلنا، لم يقل شيئاً إلا كان، فقذف الله في قلوبنا التصديق له واتباعه، فصار فيما بيننا وبين رب العالمين، فما قال لنا فهو قول الله، وما أمرنا به فهو أمر الله]] هذا ما كان من يزدجر والمغيرة.
ثم اسمعوا إلى ما قاله مؤرخ غربي معاصر!
يقول: " بقوة واحدة ونجاح واحد زحف العرب على خلفاء أغسطس في الروم، واصطخر في فارس، وأصبحت الدولتان الكبريان، المتنافستان في ساعة واحدة فريسة لعدو لم يزل موضع الازدراء والاحتقار منهما، في عشر سنوات من حكم عمر أخضع العرب لسلطانه ستاً وثلاثين ألفاً من المدن والقلاع، وأنشأوا أربعة عشر ألف مسجد للعبادة، وبعد قرن من هجرة محمد صلى الله عليه وسلم من مكة، امتد سلطان خلفائه من الهند إلى المحيط الأطلنطي.
أيها الإخوة! كل هؤلاء لا يعرفون السر ولا الميزان، إن السر والميزان أن العرب والمسلمين أصبحوا بفضل الله ثم بدين الله واتباع محمد صلى الله عليه وسلم أصحاب دين ورسالة، بُعثِوا بَعثاً جديداً، تغيروا في داخل أنفسهم فتغير ما حولهم، انقلبت لهم الدنيا غير ما كانت، تفتحت أبصارهم وبصائرهم فإذا الفساد ضاربٌ أطنابه، وإذا الشرك يخيم على العالَم بظلماته، بعثهم الله للإصلاح فأصلحوا.
إن الحضارة والمكاسب المادية والتنظيم والترتيب آثار ونتائج وليست غايات، ولا تصلح أن تكون غايات.
لقد عرفوا واستوعبوا قول نبيهم محمد صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه: {زُوِيَت لي الأرض حتى رأيتُ مشارقها ومغاربها، وأعيطِت الكنزين: الأحمر، والأبيض، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زُوِيَ لي منها}.
وقوله صلى الله عليه وسلم: {إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذي نفسي بيده! لتُنْفَقَنَّ كنوزهما في سبيل الله}.
في أحاديث كثيرة تبين مستقبل هذه الأمة مع دينها، وعاقبة أمرها ومتغيراتها: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:٤١].
نعم أيها الإخوة: لقد طال على المسلمين الأمد، فنسي كثير منهم الذكر، ونسوا ما ذُكِّروا به.
إن ميزانهم وسرهم هو الإيمان والتوحيد، والإخلاص والجهاد في سبيل الله؛ لإعلاء كلمة الله.