[فضل بيت المقدس]
الحمد لله خلق الجن والإنس ليعبدوه، وأسبغ عليهم آلاءه ونعمه ليشكروه، وأرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه ليعرفوه، أحمده سبحانه وأشكره حمد عبدٍ يخاف ربه ويرجوه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا يُسأل عما يفعل وخلقه مسئولون عما فعلوه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله؛ دعا أمته إلى التوحيد، وحذَّرهم من الشرك، وأوصاهم أن يخافوا الله ويتقوه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، آمنوا به وعزروه وآزروه ونصروه، والتابعين وتابعيهم بإحسان، الذين عرفوا الحق ولزموه، وسلَّم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله رحمكم الله، فالتقوى بالتوقِّي، ومن يتقِ الله يَقِه، واعلموا أن الأجل دون الأمل، فبادروا الأجل بالعمل، وإنه لا عمل بعد الأجل، والآخرة باقية، والدنيا فانية، فقدموا أمر الآخرة على أمر الدنيا، ولا تأخذكم في الله لومةُ لائم، واحذروا فإن الحذر محله القلب.
أيها المسلمون: منذ أن ظهرت الحضارات الإنسانية وميزان القوى لا يستقر على حال، أممٌ تكون في الصدارة، ثم تمسي فإذا هي في غير القافلة، وأخرى لم تكن شيئاً مذكوراً، فإذا هي تترقى في أوج العظمة وقمم المجد، إنها أيام الله يداولها بين الناس، هذا التداول بإذن الله وأمره يخضع لسُننٍ من الله شتى: {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} [الأحزاب:٦٢].
إن حركة التاريخ في السنن والنواميس تعطي أفُقاً واسعاً للنظر والتأمل والتدبر، أسبابٌ تجتمع بإذن الله، فيكون باجتماعها انتصار وقوة، ثم تجتمع بطريقة أخرى ليكون بها التشرذم والانحسار والضعف، لا مفر من سنن الله العاملة في التاريخ، فهي لن تحابي أحداً: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:١٦٥].
ومن منظور هذه السنن، وبتأمل هذه النواميس، شاء الله سبحانه أن يجعل بيت المقدس مسرى نبيه محمدٍ صلى الله عليه وسلم، ومنطَلَق المعراج إلى السماء في رحلة النبي الأكرم محمدٍ صلى الله عليه وسلم، ولأمرٍ حكيمٍِ شاء سبحانه أن يجعل بيت المقدس قِبلة المسلمين الأولى منذ فُرضت الصلاة في العهد المكي وثمانية عشر شهراً من العهد المدني، وهو ما يزيد على نصف سِنِيِّ البعثة المحمدية.
ثم لأمرٍ حكيم وحكمة عظيمة تسلَّم العبقري الملهم الخليفة الراشد الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه مفاتيح بيت المقدس من دون سائر المدائن التي فتحها الله على المسلمين، إنه التمييز الواضح، والخصوصية الخاصة، والإعلان الصريح لهذه المدينة المقدسة، لما لهذه المدينة المقدسة من منزلة كبرى في دين الإسلام وتاريخ المسلمين.
للمسجد الأقصى وقصة الإسراء خبرٌ خاص، وسورة كاملة في قلب مصحفنا ودستورنا، إنها سورة الإسراء، سورة بني إسرائيل في آياتها ودلالاتها وكنوزها.
بسم الله الرحمن الرحيم: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء:١] رباطٌ قرآني محكم بين هاتين المدينتين المقدستين، واتصالٌ ديني وثيق بين مكة المكرمة والقدس الشريف، ورباطٌ مقدس بين أقدس بقعتين فيهما الكعبة المشرفة والمسجد الأقصى، رباطٌ إلهي وثيق وما وصله الله لا ينقطع.
بيت المقدس ربوة مباركة ذات قرار ومعين، أرضٌ مقدسة، قبلة الأمة، وبوابة السماء، وميراث الأجداد، ومسئولية الأحفاد، معراج محمدي، وعهدٌ عمري، دار الإسلام، بها يُجَسَّد تراث الأمة، ويُحَدَّد مستقبلها، ويثبت وجودها.
إلى مسجدها تُشَدُّ الرحال، ومن قبله تشد الأبدان والنفوس والأفئدة.
فتحه المسلمون بعد وفاته عليه الصلاة والسلام بست سنوات، وحكموه قروناً طويلة، ثم احتله الصليبيون تسعين عاماً، فأخرجهم صلاح الدين رحمه الله.
وهذه الأيام يحتله يهود، ولن يخرجوا والله إلا بـ صلاح الدين.