[فضل سورة الفاتحة]
الحمد لله علَّم القرآن وعلم بالقلم، أخرجنا بهدي كتابه وسنة نبيه محمدٍ صلى الله عليه وسلم من حوالك الظلم، أحمده سبحانه وأشكره على عظيم ما تفضَّل وجزيل ما أنعم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الأعز الأكرم، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، أنزل عليه الكتاب والحكمة وعلَّمه ما لم يكن يعلم، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ وسار على النهج الأقوم.
أما بعد:
فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله رحمكم الله، فإن ما توعدون لآت، وتزودوا بزاد التُقى قبل الفوات، فلقد علمتم أن أهل هذه الدار مُعرَّضون للآفات، فحاسبوا أنفسكم رحمكم الله، وبادروا بالأعمال الصالحات، قبل أن يفاجأكم هادم اللذات، وارجعوا إلى ربكم فربكم يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات.
أيها المسلمون! القرآن هو هداية الله العظمى، صلح باتباعه من لم يعرف قبله صلاحاً، وأفلح بهديه من لم يجد من دونه فلاحاً، وما فقد كثيرٌ من المسلمين اليوم مجد الصالحين من أسلافهم والعزة في الأولين من آبائهم؛ إلا لأنهم لم يهتدوا بالقرآن كهدايتهم، ولم يأخذوا كتاب ربهم بقوة مثل أخذهم، وغفلوا غفلة جسيمة عن القاعدة العظيمة: {لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها} وإذا حصل الضلال -عياذاً بالله- واتباع الهوى، وتجاوز الحق؛ اختلفت قوى الإدراك في الناس، وحينئذٍ تضطرب الأعمال، وتموت العهود، وتفسد الأخلاق، ويحل الشقاء، وتفشو الفرقة، ويسلط الله على الأمة من يستذلها، ويستأثر بشئونها، ويعبث بمقدراتها، ثم يحيق الهلاك، وتمحى الآثار والديار -عياذاً بالله- ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!
أيها الإخوة المسلمون: وبين يدي الأمة سورة عظيمة ترسم طريق الهداية وسبيل النجاة، بل تحوي مجمل مقاصد القرآن العظيمة، ومعانيه العالية، من الحكم العلمية، والأحكام العملية، فلئن كان مجمل مقاصد القرآن ومعانيه الثناء على الله ثناءً جامعاً، ووصفه بجميع المحامد، وتنزيهه عن جميع النقائص، وتفرده بالربوبية والألوهية، ثم الأمر والنهي والوعد والوعيد وبيان العاقبة والبعث والجزاء، وسبيل المؤمنين، وطريق الضالين، والنبوات والمواعظ، والأمثال والقصص والعبادات والمعاملات، وتهذيب الأخلاق، وآداب الشرع من أعمال القلوب والجوارح لئن كانت كل هذه المعاني الجليلة هي المقاصد؛ فلقد حوت كل ذلك هذه السورة العظيمة.
سورة يقرؤها المسلمون ويرددونها، يحفظونها ويتلونها الصغير منهم والكبير الذكر والأنثى، المتعلم وغير المتعلم إنها فاتحة الكتاب أم القرآن والسبع المثاني الشفاء التام، والدواء الناجع، والرقية النافعة مفتاح الغنى والفلاح، ودافعة الهم والغم والخوف والحزن لمن عرف قدرها، وأعطاها حقها، وأحسن تلاوتها وتدبرها سماها ابن عباس رضي الله عنهما أساس القرآن، وقال سفيان بن عيينة رحمه الله: إنها الوافية، ونعتها يحيى بن كثير رحمه الله: "بالكافية".
أعظم سورة في كتاب الله، يقرؤها المسلم والمسلمة في الصلوات كلها فرضها ونافلتها، فكان من المتعين فهم معناها، وتدبر المراد منها، فالتدبر طريق الخشوع، والفهم معينٌ على حسن العمل، والمسلم في أمس الحاجة إلى معرفة معانيها وإدراك مراميها.
أخرج الإمامان: أحمد والبخاري رضي الله عنهما وغيرهما عن أبي سعيد بن المعلى رضي الله عنه قال: {كنت أُصلي في المسجد فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجبه، فقلت: يا رسول الله! إني كنت أصلي، فقال: ألم يقل الله: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} [الأنفال:٢٤] ثم قال عليه الصلاة والسلام: لأعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن قبل أن نخرج من المسجد، ثم أخذ بيدي، فلما أراد أن يخرج قلت له: ألم تقل لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن؟ قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:٢] هي السبع المثاني، والقرآن العظيم الذي أوتيته}.
وروى الإمام مسلم والنسائي وغيرهما عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: {بينما جبريل عليه السلام قاعدٌ عند النبي صلى الله عليه وسلم، إذ سمع نقيضاً من فوق فرفع رأسه، وقال: هذا بابٌ من السماء فتح اليوم، لم يفتح قط إلا اليوم، فنزل منه ملك فقال: هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم فسلم، وقال: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبيٌ قبلك "فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة" لم تقرأ بحرفٍ منهما إلا أعطيته}.
وعند البخاري وأحمد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أم القرآن هي السبع المثاني والقرآن العظيم}.
وعند الدارمي والترمذي وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {الحمد لله أم القرآن، وأم الكتاب، والسبع المثاني} قال الترمذي: هذا حديثٌ حسن صحيح.