للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[إثبات التوحيد عن طريق القرآن]

نأتي إلى العنصر الثاني: التوحيد في القرآن والسنة، قبل أن نأتي إلى الكلام عن التوحيد في القرآن والسنة نأتي إلى إثبات التوحيد، وليس هناك طريق لمعرفة التوحيد ولا لتعليمه ولا لإثباته ولا لبيانه للناس حق البيان إلا عن طريق القرآن؛ القرآن كتاب هداية، بيَّن التوحيد بشكل جلي وعجيب وسهل وميسور، ليس على الطريقة التعليمية -مع الأسف- التي انحرف بها كثيرٌ من المتقدمين من باب المنطق وعلم الكلام والعقليات المحضة التي لم تجد شيئاً ولم تفد التوحيد الحقيقي، وإنما إثبات التوحيد بطريق القرآن.

ولهذا نقول: إن الطريق الفطري لإثبات التوحيد -ونعني به توحيد الألوهية بخاصة- هو: الاستدلال عليه بتوحيد الربوبية، فأي إنسان تريد أن تبين له التوحيد ائته عن طريق توحيد الربوبية.

وتوحيد الربوبية تقريباً لا يكاد ينكره أحد، إلا مع الأسف في وقتنا الحاضر وإلا فالأمم كلها تعرف توحيد الربوبية، وتعلم أن الله عز وجل هو الخالق والرازق والمحيي والمميت والمدبر والمصرف سبحانه وتعالى وهو الذي بيده ملكوت كل شيء، هذا هو توحيد الربوبية الذي تعرفه كل الأمم ولا يكاد ينكره إلا فئام قليلة من الدهرية أو غيرها، لكن -مع الأسف- مع الماديات المعاصرة صار هناك خلل كبير، وسوف نشير إليه إن شاء الله.

فالقرآن أثبت توحيد الألوهية عن طريق توحيد الربوبية؛ لأن طبيعة قلب الإنسان يتعلق بالمصدر الذي خلقه والشيء الذي يعتقد أنه مصدر نفعه وضره، فإذا كان هذا مسلماً في النفوس -لأن القلب بطبيعته يتعلق بهذا- معترفاً بالخلق وبالرزق وبمصدر النفع والضر؛ فهذا هو المدخل الوحيد والقريب والذي لا يقبل الجدل.

ولهذا حينما تتأمل بعض الآيات مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة:٢١] أمر بالعبادة والتوحيد، ما هي العلة؟ {الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:٢١ - ٢٢] وهذا خطاب لشيء مقبول تطيقه النفوس وتؤمن به.

بل حتى أحياناً قد يكون هناك بعض العقول غير مسلمة وعندها غفلة، وحينما تذكرهم بآيات الكون مباشرة يرجعون، ولهذا الله عز وجل قال: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة:١٦٣] وقال بعدها: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة:١٦٤] فسبقها بالقضية ثم أتى ببرهانها، ففي الآية الأولى في قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة:٢١] نقول مثلاً: فجعل تفرده بالربوبية حينما قال: {الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:٢١] فجعل تفرده بالربوبية خلقاً للحاضرين والماضين، أنتم ومن قبلكم، وتمهيد الأرض ورفع السماء، وإنزال المطر ليحيي الأرض بعد موتها، ويخرج الرزق لعباده جعل كل ذلك آية على توحيد الإلهية واستحقاقه وحده للعبادة وتفرده بذلك وتنزيهه عن الأنداد والشركاء: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:٢٢].

هذه طريقة سهلة وواضحة في أن قضية إنكار وجود الله لا تكاد تقبلها الفطر، نعم قد تصيبها غفلة لكن مِن السهولة إثباتها، فما دام أنها مستقرة يترتب عليها توحيد الألوهية، مثلاً في قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ * فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [يونس:٣١ - ٣٢] آيات كثيرةٍ إلى أن قال: {فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [يونس:٣٥].

فقررهم سبحانه بما لم يسعهم إنكاره، ولا مخلص لهم من الاعتراف به من تفرده بالرزق والملك والتدبير والإحياء والإماتة والبذل والإعانة: {أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} [النمل:٦٤] والإرشاد والهداية: {أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [يونس:٣٥] ولذا يقيم عليهم الحجة في وجوب تقواه: (أفلا تتقون)، دون من سواه، ولا ينكر عليهم حكمهم الخاطئ، وشركهم الفاضح، وعكوفهم على من لا يملك لهم ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً.

وهناك آيات طويلة مثل آية النمل: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} [النمل:٥٩ - ٦٠] تسلسل طويل جداً يمر بكل المعارف البشرية وبكل الأحوال التي تمر على البشرية: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} [النمل:٦٠] يعني: يعدلون به غيره.

{أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ * أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل:٦١ - ٦٢] وهذه قضية كبيرة جداً، وكثيراً ما ينبه إليها القرآن: {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَ