[حقيقة الطريق ورعاية الدين لآدابها]
يخيل لفئة من الناس عن رعونة وجهلٍ واستهتار وإهمال أن الطريق هو المكان الذي يتحرر فيه من الضوابط وقواعد التعامل، يتحلل من الآداب والمسئوليات ليعطي نفسه حق التصرف كما يريد والفعل كما يشاء، متجاوزاً الخلق الحسن ومبتعداً عن الذوق الرفيع، الطرق هي مسالك الناس إلى شئونهم، ومعابرهم إلى قضاء حوائجهم، وهي دروبهم في تحركاتهم وتحصيل منافعهم، هي سبيلهم إلى أسواق التجارة وكسب المعاش، وهي منافذهم إلى المعاهد والمدارس ودور العلم والمساجد والمتنزهات، في الأسفار والرحلات، وكل أنواع الحركة والتنقلات.
أيها الإخوة المسلمون: إن رعاية الطريق وأداء حقه والالتزام بآدابه من أوضح ما اعتنى به ديننا الحنيف، في مظهرٍ حضاري، وسلوكٍ متحضر، وأدب عالٍ وخلقٍ سامٍ، جاء ليرقى بالمسلمين ويهذب مسالكهم ويحملهم إلى مستوى من الحضارة من قبل أربعة عشر قرناً.
استمعوا حفظكم الله إلى هذا القبس من مشكاة النبوة، ترغب به القلوب، وتشنف به الأسماع، يقول عليه الصلاة والسلام: {عرضت علي أعمال أمتي حسنها وسيئها، فوجدت في محاسن أعمالها، الأذى يماط عن الطريق، ووجدت من مساوئها النخاعة في المسجد لا تدفن}.
ويقول صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: {خلق كل إنسان من بني آدم على ستين وثلاثمائة مفصل، فمن كبر الله وحمد الله وهلل الله وسبح الله واستغفر الله، وعزل حجراً عن طريق الناس، أو شوكة أو عظماً عن طريق الناس، أو أمر بمعروف أو نهى عن منكر، عدد الستين والثلاثمائة، فإنه يمسي يومئذ وقد زحزح عن النار} أخرجه مسلم.
وقال عليه الصلاة والسلام: {الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان} متفق عليه.
وفي خبرٍ عند مسلم رحمه الله من قوله عليه الصلاة والسلام: {لقد رأيت رجلاً يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي المسلمين}.
وفي رواية في الصحيحين: {بينما رجلٌ يمشي في طريق، وجد غصن شوك على الطريق، فأخره فشكر الله له فغفر له}.
آداب ديننا في هذا عالية، والأخلاق في الإسلام فاضلة، جاءت لتهذب مسالك المسلمين وتحملهم إلى مستوى من المسئولية والشعور نحو الآخرين ورعاية حقوقهم ومصالحهم، وإنك لتعجب أن تكون مثل هذه الآداب والتوجيهات في منهج أهل الإسلام ثم لا ترى التزاماً، بل ترى في كثيرٍ من المواقع إهمالاً وتقصيراً، فمدن المسلمين وقراهم وطرقهم ومسالكهم مع الأسف تزخر بالمعوقات، وتمتلئ بالمؤذيات والمزعجات؛ من مركباتٍ عاطلة، وأتربة متراكمة، وبقايا ومخلفات، مع حفرٍ مهملة، وأحجار ملقاة، لا يكلف المسلم نفسه أن يضع الشيء في موضعه، ويبعد الأذى عن طريق إخوانه، قياماً بالمسئولية وابتغاء الثواب العظيم من الرب الكريم، وتأملوا قول الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رحمه الله: [[لو عثرت دابة بشاطئ الفرات لظننت أني مسئول عنها لم لم أعبد لها الطريق] هذا في تعبيد الطريق للدواب فما بالك بحقوق المسلمين!
إن حقوق الطريق وآداب المسير في ديننا كثيرة ودقيقة من غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذكر الله كثيراً، وإرشاد الضال، وهداية الأعمى، وإسماع الأصم، وإغاثة المظلوم، ومساعدة العاجز في حمل متاعه، والمشي على الأرض هوناً، والقصد في السير، وخفض الصوت، والكلمة الطيبة، والماشي يسلم على القاعد والراكب على الراجل والصغير على الكبير: {واتقوا الملاعن الثلاثة: البراز في الموارد وقارعة الطريق والظل، وإذا أتيتم الصلاة فأتوها وعليكم السكينة} وكثرة الالتفات في الطريق يخل بالمروءة، واجتنبوا السخرية بالمارة، والاستهزاء بالعابرين، لا بعبارة ولا بإشارة، واسعَ رحمك الله بشدة ساقيك مع اللهفان المستغيث، واحمل بقوة ساعديك مع العاجز الضعيف، وعليك بمراعاة أدب السير مع الأصحاب، فهذا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه خرج من المسجد بعد الصلاة فسار الناس خلفه، فالتفت إليهم وقال: [[لا تفعلوا، إن السير خلفي ذلة للتابع، وفتنة للمتبوع]].