[تخير الأوقات وانتهاز المناسبات في الدعوة إلى الله]
المسلك الثاني: تخير الأوقات وانتهاز المناسبات، وهذا مسلك كبير وعريض ومؤثر في معالم الدعوة وتلمسها، ويبلور ذلك كلمة جامعة لـ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حين يقول:[[إن للقلوب شهوةً وإقبالاً، وفترةً وإدباراً، فخذوها عند شهوتها وإقبالها، وذروها عند فترتها وإدبارها]] وقد كان يذكرهم كل خميس، فقال رجل: لوددت أنك ذكرتنا كل يوم؟ فقال:[[أما إنه يمنعني من ذلك أنني أكره أن أملكم، وإني أتخولكم بالموعظة كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخولنا مخافة السآمة علينا]].
ولأمرٍ ما! كان نزول كتاب ربنا منجماً؛ حتى يتمشى مع تخيل أوقات المناسبات، فنزل منجماً ومفرقاً على ثلاث وعشرين سنة، على المناسبات والأحداث والأزمنة والأمكنة، وأنت خبير -أيها الداعية- أن إقبال الناس في رمضان يختلف عنه في غيره، أي: تستغل المناسبات؛ لأن لهم إقبالاً على الدعوة وعلى الخير في مناسباتٍ، وكذلك يقبلون في موسم الحج إقبالاً مختلفاً عن غيره، وقل مثل ذلك في المناسبات المختلفة والأحداث المتجددة؛ من وقائع الأفراح وحضور المصاعب، فأنت في مناسبة العزاء لا تقوله ما تقول في مناسبة الأفراح.
فأخذ الناس بهذا ومراعاة تقلبات الدهر من حولهم يدرك به سرٌ عظيم في التأثير والاستجابة، وإذا رغبتم في مزيد من الإيضاح في هذا؛ فانظروا إلى بعض الأوقات التي أشار إليها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فنتخيرها في الدعاء، مثل: أوقات السحر، ونزول الغيث، والتقاء الجيوش، وأدبار الصلوات ونحوها، فنتخير الأوقات؛ لأن الأحوال فيها تختلف.
وإذا رغبتم كذلك في واقعة؛ فانظروا في حكمة يوسف عليه السلام حين استغل الفرصة مع الفتيين عند تعبير رؤيتيهما فدعاهم إلى الله الواحد الأحد، وقال لهم:{يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}[يوسف:٣٩] يقول ذلك لأنه رأى منهم إقبالاً وقالوا: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}[يوسف:٣٦] رأى أنهم معجبين به ويقبلون عليه، ورأوا أنه يحسن تأويل الرؤيا؛ فأراد أن يعطيهم معلومات مادام أن الثقة وجدت استغل المناسبة، فقال:{يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ}[يوسف:٣٩] ودعاهم إلى التوحيد الذي هو أعظم مطلوب.
وقد يكون فيما أشار إليه أهل العلم من تنوع معجزات أنبياء الله، ومناسباتها مع ما يسود البيئات من علوم ومعارف، كعصا موسى عليه السلام كانت في بيئات السحرة، وعيسى عليه السلام كان في بيئة الطب، وكتاب محمدٍ صلى الله عليه وسلم الذي هو القرآن كان في بلاغة العرب؛ مما يشير إلى ملاحظة الاختلاف في البيئات والمناسبات والطبائع.