وكما جعله الله مهوى الأفئدة، فقد جعله للناس قياماً، فهو مدار لقيام أمر دينهم ودنياهم، باجتماع أمرهم عليه، وتوجُّهِهم في الصلاة من كل مكان إليه، يحتاجون إليه في تمدنهم الذي به كمال معاشهم، وحسن معادهم.
وكم هو جميلٌ لذي الفقه والبصر، أن يقارن بين المال والكعبة في هاتين الآيتين الكريمتين:
وبين قوله سبحانه:{جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ}[المائدة:٩٧].
يوضح ذلك الإمام القرطبي رحمه الله، رابطاً بين وظيفة الملوك والولاة، ووظيفة هذا البيت المعظم، فهو يقول رحمه الله: قال العلماء: إن الله خلق الخلق، وفيهم طبع من التحاسد والتنافس، والتقاطع والتدابر، والسلب والنهب، والقتل والثأر، فكان من حكمة الله الإلهية، ومشيئته الأزلية أن هيأ لهم وازعاً يدوم معه الحال، ورادعاً يُحمد معه المآل، فجعل لهم من أنفسهم ولاة وسلاطين يمنعونهم من التنازع، ويحملونهم على التآلف، ويردون الظالم عن المظلوم، ويحفظون لكل ذي حق حقه، فتجري على رأيهم الأمور، ويكف الله بهم عاديات الجمهور.
ثم قال: وكذلك بيت الله سبحانه عظَّمه في قلوبهم، وأوقع هيبته في نفوسهم، وعظَّم فيهم حرمته، فقال عز من قائل:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ}[العنكبوت:٦٧] فكان موضعاً مخصوصاً، لا يدركه ظلوم، ولا يناله غشوم، يحجز قويهم عن ضعيفهم، ومسيئهم عن محسنهم، وظالمهم عن مظلومهم، يقيمون بجواره، ويحجون إلى عرصاته، فتقوم بهذا المصالح والمنافع، جذب إليه الأفئدة، وجلب إليه الأرزاق، وهو قيام لهم في أمر دينهم، يهذب أخلاقهم، ويزكي نفوسهم، يجمع كلمتهم، ويقطع دابر أعدائهم، قياماً للناس.
فالكعبة المشرفة ليست نصَباً تذكارياً، يُتَعَلَّق به تَعَلُّق الآثار، ولكنها دين وعقيدة وعبادة، لا تقوم للمسلمين قائمة بدونها، ولا تكتمل للمسلمين شخصيتهم الشرعية ما لم يجتمعوا حولها ويعظِّموا حرمتها، وإذا أذن الله بخراب الدنيا سلط الله على هذا البيت من يهدمه، فقيام البيت قيام الناس, والله غالب على أمره.