إن حقاً على العاقل اللبيب النظر والتفكر، والمحاسبة والتدبر، فكأس المنايا تذوقها حتمٌ على كل حي، فهل ينتظر الصحيح إلا السقم، والكبير إلا الهرم، والموجود إلا العدم، على هذا مضت الخلائق، وعلى هذا جُبِلَت الدنيا اجتماع وفرقة، محيا وممات {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ}[الرحمن:٢٦ - ٢٧]، {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}[فاطر:١١].
والمصائب خطبٌ موجع، والمنايا حولٌ مفجع، والغنيمة بالصبر والرضا وحسن الظن والاستعداد؛ حتى قال بعض السلف:"لولا المصائب لضربنا القيامة مفاليس".
والمرء إذا مات سلا عنه أحبابه، ونسيه أصحابه، وذهل عنه من أنفق عمره في محبته، وأتعب نفسه في ملاطفته.
فإذا تذكر الموت متذكر فليكن تذكره لا من أجل فراق الأحباب والأصحاب؛ ولكن من أجل فراق العمل لدار القرار، والزاد للمنقلب والمصير، فمن نظر نظرة استعداد وعمل زاد في الجد والعمل، ومن نظر نظرة فراق وحزن ساءت حاله وزادت حسراته.
أيها الإخوة! وهذه وقفة تذكرٌ وتذكير بحال المسلم وهو يودِّع دار الدنيا ويُقبِل على ربه، فهذه الجنائز تمر على الأسماع والأشخاص وقليل من يدكر، وقفة مع أحكامها وآدابها وحكمها وعبرها؛ فدينكم دين الإسلام لم يترك شاذة ولا فاذة إلا وضحها وبينَّها في حكمها وأحكامها وعبرها وأسرارها.
وفي هذا المقام يقول الإمام ابن القيم رحمه الله:"وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا أفضل الهدي، فهو يشتمل على الإحسان إلى الميت، ومعاملته بما ينفعه في قبره ويوم معاده، وعلى الإحسان إلى أهله وأقاربه، وعلى إقامة الحي العبودية لله وحده فيما يُعامل به الميت، وتجهيز المنتقل إلى الله على أحسن أحواله؛ فالمسلمون يقفون صفوفاً يحمدون الله ويستغفرونه لميتهم، ويسألون الله له الرحمة والمغفرة والتجاوز عنه، ثم المشي بين يديه إلى أن يودعوه قبره، ثم يسألون له التثبيت، فهو أحوج ما يكون إليه، ثم يتعاهدوه له بالزيارة في قبره، بالسلام عليه، والدعاء له، كما يتعاهد الحي صاحبه في دار الدنيا" أ.