للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

ومراجعة الشراب. يصيح من ألم. ويصرخ من عذاب.

ومالي لا أقول أن ذلك السكير الذي عنه أحدثكم هو أنا، ولا عذر أتقدم به إلى الناس ولا شفيع، بل أنا الذي جررت على طبيعتي هذه النكبة النكباء.

أني اعتقد أن هناك أجساماً قوية. ورؤوساً منيعة، ومعداً حديدية، لا يضيرها إدمان على شراب، ولا يؤذيها اعتياد اصطباح واغتباق، ولا أثر لمعتق الراح، ومصفق النبيذ، وأن جرع أصحابها منها كؤوساً، واشتفوا منها أقداحاً، إلا أن ترنق مشاعرهم، وتكدر مداركهم. ولعلها لم تكن يوماً في صفاء.

لا أريد هؤلاء بحديثي. فالحديث لديهم هباء مضيع. بل أنهم ليضحكون من أخ لهم ضعيف، رام أن يوازن قوته بقوتهم، ويقارن شدته بشدتهم، فرجع من معمعة الكؤوس مذموماً مدحوراً؟ بل عبثاً أريد أن أنصح لهم. وباطلاً أطلب أن أحذرهم خطر الإدمان. وعقبي الإكثار.

بل أسوق الحديث إلى فئة غير فئتهم. وشرب ليسوا من حزبهم. إلى الضعفاء والعصبيين. إلى أولئك الذين يحسون بأنهم بحاجة إلى مقو خارجي يرفع أرواحهم في المجتمع إلى مستوى أرواح الناس، ويكسبهم البهجة التي يرونها بادية على وجوه الجماعة.

ذلكم هو سر جنوحنا نحن الضعفاء إلى الخمر. وتلكم حكمة ميلنا إلى الشراب.

منذ اثنتي عشر سنة. كنت قد أتممت الربيع السادس والعشرين. ولقد عشت منذ تركي المدرسة إلى تلك السن في معزل عن الناس. لا صحب لي إلا كتبي. وإلا رفيق أو رفيقان من عشاق الكتب ورواد العزلة. وكنت أبكر في صحوي وفي نومي. ويخال إليّ أن المواهب التي أتمها الرحمن عليَّ لم تترك فيَّ لتصدأ.

وحوال ذلك الحين وقعت في غمار أصحاب ليسوا على شاكلتي، وليسوا من طبيعتي، رجال ذوو أرواح متقدة مضطربة. ونفوس مهتاجة مستعرة. سهر ليال، وحلفاء أسمار. يقيمون الليل في نزاع وجدل. ويقطعونه في نشوة وثمل. على أن فيهم مخائل نبل. ودلائل كرم. وديباجة شرف.

كنا ننتدي بعد هدأة من الليل سامرين. ونجتمع ضاحكين ماجنين. وكان نصيبي من سعة المخيلة أربي على أنصبة نداماي. وأجزل من أقسام أصحابي. فكنت أرمي بالنكتة