للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

لتكون منبع طرب يغذي جداول الخواطر الضاحكة ومجاري الأفكار الهنية. وما كنت لا بد مدنساً طهارة الخيال بالمحادثة فلتكن مع أجنبي غريب. لا صديق قريب. ومع ابن سبيل. لأولى وخليل فإن الغريب ينتحل طباع المكان الذي تلقاه فيه ويأخذ صبغة الساعة التي تجمعك وإياه. وكأنما هو حلس من أحلاس النزل وبعض أثاثه وآلاته وهبه دجالاً فإنه أمتع لي وليس من المحتوم علي أن أنتحل خلقه وأتطبع بطباعه (وإن كان نفر من المشعوذين والمتشردين فذلك ألذ لي وأنا الذي طالما تمني أن يكون أحد هؤلاء وكيف ترى يكون إنكار الناس لهذا الرأي إن أنا أعلنت به وصرحت) هذا وإن منظر الأجنبي لا يذكرني شيئاً مما هربت منه من شؤوني وأحوالي. ولا يكون مقروناً في ذهني إلا بما يحيط بي من الأشياء والحوادث وجهله بي وبجميع أمري يعديني فأكاد أنسي نفسي وشخصيتي ولكن الصديق يذكرني بأمور كثيرة وينبش قبور الألم ويفسد سحر المقام والحال. ويحول بين الذهن وبين ما قد تخيله المرء لنفسه من الشخصية الوهمية بما قد يعرض أثناء الحديث من ذكر وظيفتك ومهنتك وأحوالك وشؤونك. أو بما قد يتفق من أن صديقك من القوم الذين يعرفون أخبث جوانب تاريخك وأقذر نواحي عرضك وسيرتك فيخيل إليك أن سائر سكان النزل والخدم والطباخين يعلمون ذلك أيضاً فتظل وما أنت بابن العالم وأخي الدنيا الذي تخيلت وتوهمت وإنما فلان القاطن بكذا الذي شأنه كيت وكيت. فيضيق بك ما كان انفسح حولك من دائرة الوهم ويرتد مغلولاً ما كان طم لك من شعاع الخيال. ويتضاءل ما كنت حسبت أنك أصبت من بذخ المكانة امتداد شأو الحال. أجل ما ألذ أن يصدع المرء عن نفسه أغلال المجتمع والرأي العام - وأن ينسى ذاته وشخصيته وهمومه بين عناصر الكون وأجزاء الطبيعة ويصبح ابن الساعة واللحضة خالصاً من كل قيد وربقة - لا صلة له بالعالم إلا لوناً من الحلوى أو صحفة من الفاكهة ولا دين عليه إلا ثمن مأكل اليوم ومبيت الليلة - غير مكترث لمدح ولا ذم ولا مبال بسخط ولا رضا ولا مسمى إلا بالسيد الضيف.

فأما الآثار والخرائب والمتاحف ومعارض الصور والدمى والتماثيل فإنه يؤثر في زيارتها صحبة الرفيق أو الرفقاء على الانفراد والوحدة. وذلك لأنها مشتركة الفهم عند جميع المتأدبين متحدة المواقع في كافة النفوس ففيها للكلام متسع وللمناظرات مجال. وما يشعر نحوها من الإحساس والوجدان ليس بأخرس مستحيل النقل والبيان. بل ناطق طوع