للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

هذا الصانع المسكين يعيش في مكان ليس فيه إلا عاملاً كادحاً وهو من أكدح العاملين وأدأب الجاهدين. عيشه اليابس الوعر. ودهره العلقم المر. ورزقه ينفذ إليه من سم الإبرة. ويدر عليه من جانبي صخرة. ومع ذلك فقد كان قانعاً بقسمته. راضياً عن عيشته. يستقبل اليوم باسط الوجه منشرحاً. وينصرف عنه شاكر القلب مرتاحاً. وكان هو وسائر أهل طبقته. أناساً يكدون من لدن يرتفع النهار. إلى أن يقبض الليل الأبصار. ولم يكن لهم دون ذلك من مطمح ولا هم يريدون.

وكانت دار الحكومة ناحية من مسكن هذا الصانع وكان لا يزال بها خطابة ولجب. وجلبة وصخب. ولم يكن للرجل بذلك علاقة اللهم إلا أن ينظر ويتعجب وكان يراهم (أعني رجال الحكومة) يقيمون التماثيل حديداً ومرمراً ونحاساً أمام مسكنه الحقير فيأخذون عليه منافذ النور والهواء بأشباح هذه الأفراس النحاسية. وأشخاص تلك الصور الحديدية وتمادي على تعجبه من هذه الأشياء وماذا يراد بها ثم ابتسم ابتسامته الساذجة ومضى في عمله.

وكانت الحكومة (وهي مؤلفة من أضخم رجال البلد وأكثرهم جلبة وضوضاء) قد تكلفت أن تحمل عنه أعباء الإدارة ومؤنة التفكير فتدبر له شؤونه وتنظم أحواله. وكان الرجل يقول نعم ما تصنع بي الحكومة. ستعنى بأمري جزاء شيء من المال أجعله لها (والحكومة أيها القارئ ليست فوق مال الرجل) وذلك أنعم لي وأنفع ومن ثم ما ترى من تلك الخطب في دار الحكومة والصياح والضوضاء وما ترى من تلك التماثيل التي يكلف الرجل المسكين أن يسجد لها من دون الله.

ويقول الرجل ويحك جبينه حيرة وعجباً أنا لا أفهم كل هذا. فعسى أن له معني يدق عن فهمي ويلطف عن إدراكي.

فتجيب الحكومة معناه إن أعظم المجد والشرف للأعظم أعمالاً وآثارا.

فقال أهو كذلك؟ وسره ما سمع. ولكنه نظر في التماثيل فلم يجد بينها صورة رجل فاضل ممن يعرف ولا صورة ذلك الرجل العظيم تاجر الأصواف الذي توفى آنفاً. ولا صورة رجل من كبار الأطباء الذين بفضلهم نجا هو وبنوه من آفة الداء ولا تمثال شجاع ممن أطلقوا العباد من رق الجبابرة وتركوهم أحراراً بعد أن كانوا عبيداً وأسرى ولا تمثال شاعر أو قصصي ممن أوجد للفقراء والمساكين من الخيال حياة أجمل وأعلى كلها لذائذ وعجائب