للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

عاشوا فيه وعاداته، إلا أنك لتظفر بالعربي منهم، فلا تقرأ في صفحة وجهه إلا صفحات تاريخ العرب كله، ولا تطالع في أساريره إلا سلاسل مآثرهم ومدوناتهم، ولا تقع فيه إلا على شيمهم وخلاتهم، ولا تسقط منهم إلا على قوة إفهامهم، ورجاحة ألبابهم، وهو بعد متميز عن أهل وطنه، متفرد دون الوسط الذي يحوطه، متفوق على أفراد أمته، لأنه وإن فقد الروح الاجتماعية التي هز بها آباؤه عروش العالم، وفتحوا بتأثيرها بلدانه وأقطاره إلا أن فيه لا تزال الروح الطبيعية التي تجعل العربي أبداً إنساناً قوياً في كل شيء، ولا تزال سلالات العرب في كل بل يقوون كفاآت أهله بتزواجهم، ويدخلون عليهم من دمائهم، حتى ليدور الفلك مداره، وتنصرم القرون، وتنفرط الأجيال، وينتهي اليوم الأخير من عمر الدنيا، ولا يزال في العالم رجل يقول ها أنا ذا عربي.

نقول ذلك ونحن بصدد نابغة مصري الموطن والمولد، عربي الأرومة والمحتد، وإذا كانت كل أمة من الأمم إنما طرأت على الأرض التي انتحلتها واستوطنتها، وكانت السلالات البشرية قاطبة لا تكاد تعرف لها موطناً أصلياً تقول هذا موطني على الحقيقة لا على المجاز، فليس بعاب على المصريين أن يكون عظيمهم يرجع بنسبة إلى أصل غير مصري.

فلا يندهش الناس بعد إذ رأوا من فتح الله بك بركات ما رأوا من شدة الذكاء، وقوة العارضة، وحمية الأنف، والنضح عن الحقوق، والدأب في خدمة المجموع. إن نقول إن هذا النابغة المصري ينتمي نسبه إلى أبي بكر الصديق، فمن دمائه تجري روح ثلاثة عشر قرناً كاملاً، بل تكاد تكون روحه قطعة من روح الإسلام كله، تفيض جميع مميزاته النفسية وخلاله ووجداناته وأفعاله من طبيعة الدم الذي يسري في عروقه، فكل ما ترى من وجداناته أثر من آثار ذلك الفيض الذي نبع منه، بل هي صورة مصغرة من صورة روح الصديق رضي الله عنه، ولتجدن ماء الغدير الفياض في حلاوة مساغه وعذوبة مذاقه لا يختلف عن ماء النهر العظيم الذي فاض منه واستمد، وكل ما نرى من غيرته وحميته طليعة من طبائع مزاجه، يمدها قلب كبير، وروح حارة، وليس كأولئك الذين لا تكون الحمية فيهم والغيرة إلا نتيجة الظروف، حتى لا تكاد تفرق بين غيرتهم وبين انفعالاتهم، ومثلهم في ذلك مثل الجياد غير الصافنات إذا عرضت في السوق للبيع، وجرى بها سمارها شوطاً صغيراً، أظهرت