للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أينما سرت: تري شاباً يلوح عليه النشاط وتترقرق في محياه البشاشة والعزم ويندر أن تراه غير منهمك في عمل من الأعمال تجده في يوم واحد قد قرأ رسالة في علم طبقات الأرض وفضلاً في النقد الأدبي وتصفح بعض الجرائد وألقى نظرة على بعض المحاضرات وكتب مقالة في بعض مسائل العلم والفلسفة وترجم قطعة من اللغة الإنكليزية فتعجب بذلك الشاب كما يعجب رفاقه غاية العجب بمقدرته وعزيمته على الإتيان بكل هذه الأعمال الكثيرة المتنوعة على أننا لا نعده إلا كسولاً لأن هذه الأعمال المتنوعة لا تعد في عرف العلوم النفسية إلا دليلاً على بقاء الذهن على حالته الطبيعية الغريزية وعدم ارتقائه إلى درجة الإنتباه الإرادي حيث يكون لسلطة الإرادة يد في توجيهه حيث يرخي الخير والمنفعة. وهذه المقدرة العجيبة على الإتيان بأعمال متنوعة متعددة ليست إلا ضعفاً في الإرادة وهذا الشاب الذي وصفناه نوع من أنواع الكسالى وهو نوع نسميه النوع المشتت الذهن نعم إن تنقل الذهن بين هذه الأعمال المتنوعة والفنون المختلفة يلذ العقل ويروح عن الخاطر ولكنه لا يعد إلا نزهة لذيذة فقط أي لا منفعة فيها ولا ثمرة لها. ولقد شبه نقولا أولئك الذين يتنقون بين الأعمال المتنوعة من غير أن يستقروا على حال بعقول الذباب وقد شبههم فنيلون بشمعة تضيء مكاناً معرضاً لهبوب الرياح من كل جانب.

وأكبر عيوب توزع قوى العقل في مجهوداته وتشتتها أنها لا تدع للفكرة أو العاطفة من الوقت ما يكفي لاكتمالها ورسوخها في قرارة النفس وبذلك تمر كل فكرة بالذهن مروراً لا تستقر حتى ترحل ولا تسلم حتى تودع كأنما هي مسافر نزل في فندق ثم زايله ورحل عنه في التو واللحظة.

وبذلك تظل الأفكار والعواطف والوجدانات غريبة عنا وليست منا فلا تلبث أن تهمل في زوايا النسيان. أما العمل العقي الصحيح فإنه يتطلب حتماً توجيه القوى العقلية في طريق واحد كما سنرى ذلك مفصلاً في الفصل الآتي.

وهذا النفور من المجهود الحقيقي أي من ربط جميع القوى العقلية وتوجيهها جميعاً إلى غاية واحدة واضحة يزداد صعوبة ويشتد بنسبة افتقار المرء إلى مجهود ذاتي فإن الفرق شاسع بين إتيان عمل مبتكر واستنباط وسائله واختراع السبيل إلى إيجاده جديداً لم يسبق له نظير وبين شحن الذاكرة بنتائج العقول وآثارها ومبتكرات الأذهان وأثمارها فإن لأول