هو الذاكرة وما هي عليه من وفرة المعارف المكتسبة أو قلتها. ولو سألت طالباً ذكياً مفكراً من طلبة الطب أو الحقوق أو العلوم الطبيعية أو التاريخ لصرح لك بأن المجهودات الشخصية التي يبذلونها في تحصيلهم والتي تفتقر إلى أعمال الفكر والروية أقل من القليل بالنسبة لمجهودات الحافظة لذلك يعجب الإنسان من تفشي هذا العيب عيب الخمول العقلي حتى لدى العلماء وهو خمول تستره الظواهر الباهرة من تأليف المؤلفات الضخمة وتكلف العناء البالغ في سبيل جمع مواردها والتأليف بينها فيعجب الرائي كيف يرمي من هذه معارفه وهذا عمله بالخمول العقلي والجواب على ذلك يسير فإن الكمية لا تقوم مقام الكيفية بل كثيراً ما تكون كمية العمل عائقة عن إبلاغه الدرجة المرومة من ألغجادة والكمال والإتقان وفرق كبير بين من يجمع بين أقوال غيره وبين من يبتكر ويبتدع. يهزأ أصحاب الإطلاع الواسع بالفلاسفة وهم أنفسهم خليقون أن يشبهوا بالجرذ الذي أضحى بين الأدباء كناية عن سعة الإطلاع وبيان ذلك أنهم زعموا أن جرذاً رأى يوماً موقداً فيه بعض الثمرات تشوى على الجمر فكلما مد يده وحاول أن ينال من تلك الثمرات وهي مستورة بالرماد لذعته النار. وما زال يعالج هذا الأمر حتى وفق إلى أخذ واحدة ثم ثانية تلتها ثالثة.
فهذا مثل المنقطعين إلى الإطلاع: يبدأون عملاً ويأخذون في الجد في إتمامه فإذا أعياهم البحث وأنهكهم التعب كفوا ثم عادوا بعد قليل إلى سيرتهم الأولى. معتمدين في عملهم هذا على الكتب والرسائل التي دونت في الموضوع الذي يعالجونه وليس أن تبتدع أو تنشئ شيئاً جديداً. نعم إن العقل قد يستفيد من هذه المطالعة ولكنه يضيع كثيراً من مضائه ونفاذه إلى صميم الحقائق.
ولعل الزمن الآتي يحقق آراء الفيلسوف رينان في مستقبل العلوم التي هي لمحض الإطلاع فحسب. فإن تلك العلوم فضلاً عن حقارة نتائجها وكثرة ما فيها من الخطأ والخلط والتناقض سوف يأتي زمن لا تقوم فيه لها قائمة ولا تروج لها سوق. وإليك مثالاً لذلك الكتب التي تؤلف وتهدى في كل عام إلى المكتبة الأهلية بباريس فإنها تبلغ عشرين ألف مجلد عداً. فإذا أطرد ذلك فقد اتمضي خمسون عاماً حتى تربى مجموعة الكتب الموجودة في عهدنا الحاضر على ألف ألف مجلد، عدا الجرائد والمجلات والنشرات الدورية وهو عدد عظيم من الكتب حتى لو ركمت فوق بعضها لأربى علوها على قمة الجبل الأبيض. فكيف يمكن