للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أن يحتوي التاريخ بين دفتيه على أسماء الأعلام بل لا بد أن تمحي منه شيئاً فشيئاً ولا يذكر فيه غير الحوادث الإجتماعية الكبرى على أن تلك الحوادث نفسها مثار للغرض والهوى والظن والتخمين في أسبابها وفي نتائجها. وليس في مقدور الإنسان أمام هذه المواد الكثيرة الهائلة أن يحيط بها علماً ويقال عندها أنه واسع الإطلاع. أما أصحاب العقول المستنيرة الرشيدة فلا يرون في هذا العمل إلا عملاً آلياً بحتاً وهو الرجوع إلى المعاجم ودوائر المعارف والسجلات والكتب وذلك كله ليس من الأعمال العقلية في شيء لأن الأعمال العقلية إنما تنحصر في أعداد المواد اللازمة لبناء فكرة من الأفكار وتجنب كل تفصيل تافه ليس له شأن في تركيب بنيتها. وإنشاء موضوع هو تصوير روحه وجوهره تصويراً واضحاً للعيان وترك التفاصيل التي تشوه الحقائق. ومن تأمل بعين الناقد البصير لرأى أن تلك الحواشي والتفاصيل تسربت إلى الموضوع على غرة من العقل أثناء اشتغاله وكده في البحث وعنائه في الإستنتاج والإستنباط لما هو مغروس في الطبيعة البشرية من الخمول العقلي: تستريح المفكرة وتغفو غفوة فتمدها الحافظة بما هو مخزون فيها.

نقول والحسرة ملء فؤادنا أن مناهج التعليم الموضوعة في أيامنا هذه تزيد في هذا الخمول العقلي في شدته وتثقل في وطأته حتى كأنما يراد بها تخريج تلاميذ مشتتي الأذهان بتكليفهم بأن يلموا بكل شيء إلماماً ويمروا به مروراً من غير أن يعلق بعقولهم منه شيء أو يتسع الوقت لتمنعهم في الدرس والبحث لسبب ما فرضته تلك المناهج من المواد الكثيرة المتنوعة. وإن للطالب أن يفقه عنهم طريقة التعليم هذه وهي تهدم من نفسه كل قوة للإستنباط وكل إرادة في العمل الجدي.

لقد أتى زمن على المدفعية الفرنساوية كانت فيه ضعيفة فزيدت اليوم عشرة أضعاف قوتها. كانت القنبلة في الزمن القديم تنفجر عندما تصدم الهدف فلا تصيبه بكبير أذى. أما اليوم فقد اخترعوا آلة خاصة تدفعها إلى الإستمرار في السير بضع ثوان بعد اصطدامها بالهدف لتغلغلها في أحشائه وتمكنها من جوانبه ثم تنفجر فتسحقه سحقاً ولا تبقى فيه ولا تذر. ولقد نسوا في طرق التربية أن يخترعوا للذهن آلة تدفعه إلى الإمام حتى يتمكن من المعلومات وكان القائمين بأمور التربية يقولون للعقل: أتريد أن تقف؟ كلا. كلا. لا بد لك من الجد في السير. فيقول لهم: ولكنني لم أع شيئاً مما قرأت وتلك الوجدانات التي تولدت لدي من