القراءة ما كادت تمر بي مروراً حتى ذهبت وأمحي أثرها فأصبحت أثراً بعد عين. فيقال له: لا بأس. لا بأس. لقد مضى عليك أيها المسكين أن تظل سائراً لا تلوى على شيء ولا نصيب لك من الراحة. لا بد أن تمر على الرياضيات والطبيعية والكيمياء وعلم الحوانات والنباتات وطبقات الأرض وتاريخ جميع الأمم وتخطيط البلدان ويجب أن تتعلم لغتين أجنبيتين وتدرس أدبيات بعض الأمم وتدرس علم النفس والمنطق والأخلاق وما وراء الطبيعة وتاريخ المذاهب الفلسفية. فسر في طريقك فإنك صائر إلى حالة من أتعس الحالات وعادة من أقبح العادات وهي الإطلاع على كل شيء إطلاعاً سطحياً لا تنفذ منه إلى بواطن الأمور وتعرف كنهها وتكون عرضة للإنخداع بالظواهر.
وليت الطلبة بعد خروجهم من المدارس والتحاقهم بالجامعات يتئدون في سيرهم الحثيث بل يسيرون أيضاً بخطى واسعة وبعض فرق من الجامعة أعجل في سيرها وأبلغ في غوائلها من الآخرين.
أضف إلى هذا القلق الذي تولده الدراسة ما تبعثه الحياة في عهدنا الحاضر في أنفسنا من الآثار السيئة فإنها تشتت الذهن وتبلبل الأفكار على صورة لا مفر للإنسان منها ولا طاقة له بالخلاص منها فإن سهولة النقل وكثرة الأسفار في البر والبحر والتنقل بين السهول والجبال والأنجاد والأغوار كل ذلك يلهي الذهن ولا يدع للمرء متسعاً من الوقت لقراءة ما يفيد أو التفكير فيما ينفع حتى يحق لنا أن نقول أننا نعيش عيشة مضطربة لا خير فيها أو عيشة كثيرة الحركة قليلة البركة.
والصحف اليومية بما لها من الأساليب الشائقة التي تستهوي النفوس وتجتذبها إلى ما يقع من الحوادث في كافة بقاع الأرض استمالت أكثر الناس إليها وجعلتهم يفضلون قراءتها والإستمتاع بأحاديثها على قراءة الكتب القيمة المفيدة.
فكيف يمكن اجتناب تشتت الذهن الذي يولده الوسط إذا لم تتخذ العدة اللازمة لدفعه ودرء شره بواسطة التربية ولكن أين الإهتمام بتربية الإرادة إذا كان لم يفكر أحد من القوام على الناشئة في وسائل إنمائهاوتقويتها بل لم يجعلوها غرضاً مقصوداً وإنما جعلوها واسطة يستعين بها الطالب على الجد في تحصيل دروسه فإذا انقضت لبانته واجتاز الإمتحان عادت قوة إرادته إلى الخور وعزيمته إلى الضعف.