البكور للوقوف على صدق ما يقول. حتى إذا عرض لك أن نزوره يوماً عند الساعة الثامنة نجده لا يزال راقداً في فراشه فيعتذر حينئذٍ لك بأنه قضى سهرة الأمس في شهود التمثيل أو في ليلة ساهرة أحياها بعض الرفاق ولذلك لم يتمكن من القيام مبكر كعادته منذ الساعة الرابعة وهكذا يعتذر بمثل تلك المعاذير كلما يتفق لك أن تزوره في مثل تلك الساعة ثم ينتهي أمره بالخيبة والفشل في كل أمر يحاوله.
أكثر الطلبة يكذبون على غيرهم في موضوع الجد والإجتهاد والمواظبة على الدرس وكلهم يكذبون على أنفسهم ويغالون في تقدير أعمالهم ويدعون أنهم أكفاء لا يعوزهم الصبر على عناء الدرس والبحث وحل معضلات المسائل. فهذه الأكاذيب كلها دليل ساطع على ما يعتقدونه اعتقاداً صحيحاً من أن قيمة المرء بعمله وجده ولو عورض أحدهم فيما يزعمه ويدعيه وقيل له أنه ضعيف الإرادة لا صبر عنده على مواصلة الكد في الدرس والتحصيل لاعتبر هذا القول إهانة لشخصه وتحقير لشأنه. وله الحق في ذلك لأن إنكار قوة إرادته معناه أنه ساقط الهمة فاتر العزم عاجز عن متابعة الجهد بالجهد ومواصلة السعي بالسعي لترقية عقله وتثقيفه وتهذيبه حتى يسمو عن طبقة العامة ويلتحق بطبقة الخاصة. ولعمري أن من كان هذا شأنه فقد قضى عليه أن يظل حقيراً طوال حياته لا أمل له أبداً في صلاح حاله.
وهذه الإعتقادات تدل ضمناً على وجود رغبة صحيحة لدى الطلبة في العمل والتشمير فيه ولكنها رغبات وأماني تجول في أنفسهم ولا يستطيعون تحقيقها وإبرازها إلى حيز الوجود. فهذا الكتاب سيكفل للطالب بيان الأساليب التي بها يحول تلك الإرادات المتزعزعة التي تجول في نفسه إلى عزم صادق شديد دائم البقاء ثم ينتهي بأن يصير عادة ثابتة وطبعاً راسخاً في النفس لا يمكن إقتلاعه منها.
وإذا ذكرت الأعمال العقلية في سياق الحديث فإنما المقصود بها إما دراسة أحداث الطبيعة أو مبتكرات العقول وثمرات الفنون، وإما محاولة إبراز شيء جديد يخترع اختراعاً وتبتدعه القريحة ابتداعاً، وأعلم أن كلا الأمرين مفتقر إلى استخدام الوظائف العقلية، فأما دراسة الطبيعة ومبتكرات العقول وثمرات الفنون فيصل الإنسان إلى غرضه منها بقوة الإنتباه وأما الإبتداع والإبتكار فلا بد فيه من التأمل واستجماع قوى الذهن. فالإنتباه لازم لا