للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

غنى عنه على أية حال. غير أن الإنتباه ليس حالة عقلية موجودة على نمط واحد، ثابتة لا تتزعزع، طويلة البقاء، فيمكن تشبيهها بقوس شد طرفاه وترك مشدوداً على تلك الحال. بل الإنتباه عبارة عن عدة مجهودات عقلية تحدث وتتكرر ويعقب بعضها بعضاً ويختلف بعضها عن بعض قوة وسرعة. فإذا كان الإنتباه قوياً شديداً ومروضاً على أداء عمله بلا كلل كانت هذه المجهودات المتكررة التي يتألف منها متعاقبة بسرعة شديدة جداً حتى ليخيل للمرء أنها مجهود واحد مستمر. وقد يلبث هذا الإستمرار الظاهر أو الإنتباه الشديد ساعات من النهار.

فالغاية التي ننشدها هي الحصول على قوة انتباه شديدة ومستمرة. وغنى عن البيان أن من أحسن نتائج تربية الإرادةة وامتلاك زمام النفس أن يكون في وسع الإنسان بذل مجهودات عنيفة شاقة وقت ما يشاء من غير أن يتململ منها أو يضيق بها ذرعاً.

غير أنه لا بد لذلك من السكينة والهدوء والبعد عن الإضطراب والحركة فكيف يمكن حمل الشبان على تلك الخطو وهم بما لهم من حدة المزاج والحياة الفوضى لا صبر لهم على التزام السكون ولا قبل لهم بما ليس من طبائع الحياة الحيوانية البحتة. وكيف نريدهم على تلك الحياة العقلية ينفرون منها بطبعهم ويرون فيها فسوقاً عن الطبيعة البشرية وتمرداً على الفطرة الإنسانية. فهذه هي العقبة التي يستطاع تذليلها شيئاً فشيئاً بالتربية والمران والإعتياد.

قلنا أن الغاية التي ننشدها هي إيجاد انتباه شديد قوامه بذل المجهودات المتكررة ولكن الدأب في بذل تلك المجهودات قد لا يؤدي إلى الغرض المقصود فقد تداهم الفوضى تلك المجهودات فتجعلها متوزعة أشتاتاً لا رابط يربطها بعضها ببعض فلا بد إذن من أن تكون أيضاً متجهة كلها إلى غاية واحدة ومرمى واحد حتى تكون منتجة مثمرة. وأعلم أن كل فكرة أو عاطفة يراد إدخالها في أنفسنا وإحلالها فيها محلاً كريماً حتى تصير منها جزأً غير منفصل فتألفها نفوسنا وتطبعها بطابعها وتحتفظ بها وتجعلها موضع مناجاتها لا بد أن تكون بحيث تجر إليها غيرها من الأفكار والعواطف وتدمجها في بنيتها وتبقى هي واسطة عقدها وممتازة عنها بقوتها ورفيع مقامها وتؤثر فيها تأثيراً ينمو ويشتد شيئاً فشيئاً ورويداً رويداً مع طول الروية وكثرة الترديد.