انظر كيف يتم إنشاء أثر من الآثار العقلية الراقية أو تحفة من تحف الآداب والفنون النادرة: تخطر على عقل الرجل العبقري فكرة قد تكون خطرة من خطرات الشباب تتولد في دماغه وهي صالحة للبقاء خليقة بالحياة فتتردد بادئ ذي بدء في ذهنه يسترها شيء من الغموض والإبهام ويمنعها من السفور شيء من الحياء ثم لا يلبث أن يعطيها حقها من الغاية ويقدر ما يمكن أن تدله من الأفكار حق قدره. وإنما يلفت ذهنه إلى كل ذلك قطعة قرأها أو حادث حدث له أو كلمة قالها مؤلف عرضاً ولم يفطن إليها ولا إلى ما تثيره من الأفكار أو فطن إليها ولكنه لم يدرك أنها مثمرة ولود. ثم تأخذ هذه الفكرة تقوى وتشتد بما يدخل في بنيتها من مواد الغذاء التي ترد إليها من المطالعات أو الأسفار أو الأحاديث مع ذوي العقول الراجحة. على هذا الأسلوب كتب (جوت) شاعر الألمان العظيم روايته الشهيرة (فوست) فإن الفكرة الأساسية لهذه الرواية خطرت له فما زال يتعهدها ثلاثين حولاً وهي تنمو وتترعرع وتغور جذورها لامتصاص مادة غذائها من تجاريب هذه الحياة ثم عرضها ناصعة ساطعة من مؤلفه العبقري الجليل.
هذا هو الواجب عمله نحو كل فكرة ذات شأن ولكن بمراعاة النسبة فيما يبذل لكل فكرة من الإهتمام حتى يكون على قدر ما لها من الشأن. وكل فكرة تخطر ببالنا وتلم به إلماماً وتمر به مرور الطيف هي في حكم العدل وكأنها لم تكن. فإذا عرضت لك فكرة عليك أن تفطن لها وترددها في ذهنك مرة بعد أخرى وأنت معجب بها مفتون بمحاسنها وإياك أن تتركها لنفسها قبل أن تترعرع وتشتد وتكون واسطة العقد المجموعة من الأفكار، فإنها كلما طال بها المقام في ذهنك اكتسبت قوة وحياة تمكنانها من اجتذاب غيرها من الأفكار المثمرة والعواطف القوية وإدماجها في بنيتها لما للأفكار من تلك الخاصة العجيبة الخفية وهي ارتباط بعضها ببعض حتى كأنها تتجاذب بقوة مغناطيسية.
وهذا العمل أي إدماج الفكرة أو العاطفة في أنفسنا حتى تصير كأنها جزء من جثماننا يتم تدريجياً بطول التأمل الهادئ الساكن الذي يلازمه الدأب والمثابرة والصبر. وما أشبه هذه الحالة بما يحدث في بعض السوائل من الرواسب المتبلورة فإنك إذا تركت سائلاً في حالة الهدوء بدون أن يتحرك أو يضطرب لا تلبث أن ترى فيه ألوفاً من الذرات المتبلورة تتجمع تدريجياً بغاية النظام والإحكام.